Header Ads

السيرة الحلبية


السيرة الحلبية
وهو الكتاب المسمى
 ( إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون)
علي بن برهان الدين الحلبي
من الكتب المشهورة في السيرة النبوية جمعها من كتاب عيون الأثر لابن سيد الناس (وذكر أنه أحسن ما ألف في السيرة) واختصر منه الأسانيد، ومن سيرة الشمس الشامي. وحاول تنقية كتابه من الروايات الموضوعة المكذوبة، وحلى كتابه بتوزيع همزية البوصيري بحسب أحداث السيرة، كما يذكر شيئاً من أبيات تائية السبكي، وأبيات ابن سيد الناس في ديوان بشرى اللبيب بذكرى الحبيب. وكثيراً ما ينسب النقول الى قائليها وكتبهم، والأحاديث الى مخرجيها وأحياناً يحكم عليها. وقد أطال في آخر الكتاب الكلام على سرايا النبي وشمائله وخصائصه وصفاته

الملف الرابع
وكان ولده عبد الله كاتباً وخازناً لعلي كرم الله وجهه أيام خلافته، فخرجت إلى زوجها أبي رافع فأخبرته أن مارية قد ولدت غلاماً، فجاء أبو رافع إلى رسوله الله فبشره، فوهب له عبداً.
وروى أبو رافع رضي الله تعالى عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه واغتسل عند كل واحدة منهن غسلاً» قال أبو رافع «فقلت له: يا رسول الله لو جعلته غسلاً واحداً، قال: هذا أزكى وأطيب» وسمى ابنه يومئذ: أي يوم ولادته، وقيل سماه سابع ولادته، ودفعه لأم بردة خولة بنت المنذر بن زيد الأنصاري زوجة البراء بن أوس لترضعه، وأعطاها قطعة نخل، فكانت ترضعه في بني مازن وترجع به إلى المدينة، وكان ينطلق إليها فيدخل البيت ويأخذه فيقبله، ثم يرجع.
ولما احتضره جاء فوجده في حجر أمه، فأخذه في حجره وقال: «يا إبراهيم إنا لن نغني عنك من الله شيئاً، ثم ذرفت عيناه وقال: إنا بك يا إبراهيم لمحزونون، تبكي العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب ونهانا عن الصياح. أي وفي لفظ: «تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب» ولولا أنه وعد صادق وموعود جامع ـ فإن الآخر منا يتبع الأول ـ وجدنا عليك يا إبراهيم وجداً شديداً ما وجدناه، أي وفي لفظ: «ولولا أنه أمر حق ووعد صدق وإنها سبيل مأتية لحزنا عليك حزناً شديداً أشد من هذا، وإنابك يا إبراهيم لمحزونون» وفي لفظ: «وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون».

وعن سيرين: لما نزل بإبراهيم الموت صرت كلما صحت أنا وأختي نهانا عن الصياح، أي ولما بكى قال له أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما: «أنت أحق من علم الله حقه، قال: تدمع العين، وقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه: أو لم تكن نهيت عن البكاء؟ قال: لا ولكني نهيت عن صوتين أحمقين وآخرين: صوت عند مصيبة وخمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان، وصوت عند نغمة لهو، وهذه رحمة، ومن لا يرحم لايرحم» وذكر «أنه لما مات كان مستقبلاً للجبل فقال: يا جبل لو كان بك مثل ما بي لهدك، ولكن إنا لله وإنا إليه راجعون وصرخ أسامة رضي الله تعالى عنه، فنهاه رسول الله ، فقال له: رأيتك تبكي، فقال له البكاء من الرحمة، والصراخ من الشيطان».
ولما مات ولد سليمان بن عبد الملك التفت إلى ولي عهده عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه وقال له: إني أجد في كبدي جمرة لا يطفئها إلا عبرة، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: اذكر الله يا أمير المؤمنين وعليك بالصبر. والتفت إلى وزيره رجاء، فقال له رجاء اقضها يا أمير المؤمنين فما بذلك من بأس، فقد دمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم، فأرسل سليمان عينيه فبكى حتى قضى أرباً، ثم أقبل عليهما، فقال: لو لم أنزف هذه العبرة لانصدعت كبدي ثم لم يبك بعدها، ولذلك قيل:
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 391
في إفاضة الكئيب لدمعته
ما يذهب من لوعته
وفي إرساله لعبرته
ما يعينه على سلوته
ومات سنة عشر من الهجرة.
واختلف في سنة؟ فقيل سنة وعشرة أشهر وستة أيام، وقيل ثمانية عشر شهراً، مات عند ظئره أم بردة، وغسلته، وحملته بين يديها على سرير.
وفي رواية غسله الفضل بن العباس رضي الله تعالى عنهما ورسول الله صلى الله عليه وسلم على سرير.

وفي كلام ابن الأثير رحمه الله قيل: إن الفضل بن العباس رضي الله تعالى عنهما غسل إبراهيم ونزل في قبره هو وأسامة بن زيد، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على شفير القبر، قال الزبير: ورش على قبره ماء، وعلم على قبره بعلامة. وهو أول قبر رش عليه الماء، وفيه أنه رش على قبر عثمان بن مظعون بالماء، وهو سابق على سيدنا إبراهيم كما تقدم، وصلى عليه وكبر أربعاً، أي وقيل لم يصلّ عليه: أي لم تقع الصلاة عليه من أحد. وفي كلام النووي رحمه الله القول بالصلاة عليه، هو قول جمهور العلماء وهو الصحيح.
وما جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه لم يصلّ عليه قال ابن عبد البر رحمه الله إنه غلط، فقد أجمع جماهير العلماء على الصلاة على الأطفال إذا استهلوا عملاً مستفيضاً عن السلف والخلف.
وقال الإمام أحمد رحمه الله في خبر عائشة رضي الله تعالى عنها: إنه خبر منكر جداً، أي وقد صح عنه : «الطفل يصلى عليه» وجاء: «صلوا على أطفالكم فإنه من أفراطكم» وقد جاء: في المرفوع: «إذا استهل المولود صلى وورّث وورث» وجاء: «أحق ما صليتم على أطفالكم» ومن المقرر أنه إذا تعارض الإثبات والنفي قدم الإثبات على النفي.
ولما كسفت الشمس في ذلك اليوم قال قائل: كسفت لموت إبراهيم. فقال رسول الله : «لا تكسف لموت أحد ولا لحياته». وفي لفظ: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، فلا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته» الحديث. ودفن بالبقيع وقال: «الحق بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون رضي الله عنه» ولقنه . قال الإمام السبكي: وهو غريب. وقد احتج به بعض أئمتنا على استحباب تلقين الطفل.

وفي التتمة للمتولي من أئمتنا: والأصل في التلقين ما روي: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دفن إبراهيم قال: قل الله ربي، ورسول الله أبي، والإسلام ديني. فقيل له: يا رسول الله أنت تلقنه فمن يلقننا؟ فأنزل الله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} أي وفي رواية: «أنه لما دفن ولده إبراهيم وقف على قبره، فقال: يا بني إن القلب يحزن، والعين تدمع، ولا نقول ما يسخط الرب، إنا لله وإنا إليه راجعون، يا بني قل الله ربي، والإسلام ديني، ورسول الله أبي، فبكت الصحابة رضوان الله عليهم. ومنهم عمر رضي الله عنه بكى حتى ارتفع صوته، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما يبكيك يا عمر؟ فقال: يا رسول الله هذا ولدك وما بلغ الحلم ولا جرى عليه القلم ويحتاج إلى تلقين مثلك يلقنه التوحيد في مثل هذا الوقت، فما حال عمر وقد بلغ الحلم، وجرى عليه القلم، وليس له ملقن مثلك؟ فبكى النبي صلى الله عليه وسلم وبكت الصحابة معه، ونزل جبريل عليه السلام بقوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة وفي الآخرة} يريد بذلك وقت الموت: أي عند وجود الفتانين وعند السؤال في القبر، فتلا النبي صلى الله عليه وسلم الآية، فطابت الأنفس وسكنت القلوب، وشكروا الله».
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 391
وفيه أن هذا يقتضي أنه لم يلقن أحداً قبل ولده إبراهيم، وهذا الحديث استند إليه من يقول بأن الأطفال يسألون في القبر فيسن تلقينهم.
وذهب جمع إلى أنهم لا يسألون، وأن السؤال خاص بالمكلف، وبه أفتى الحافظ ابن حجر رحمه الله، فقال: والذي يظهر اختصاص السؤال بمن يكون مكلفاً، ويوافقه قول النووي رحمه الله في الروضة وشرح المهذب: التلقين إنما هو في حق الميت المكلف أما الصبي ونحوه فلا يلقن. قال الزركشي: وهو مبني على أن غير المكلف لا يسأل في قبره.

وذكر القرطبي رحمه الله أن الذي يقتضيه ظواهر الأخبار أن الأطفال يسألون، وأن العقل يكمل لهم.
وذكر أن الأحاديث مصرحة بسؤال الكافر، أي من هذه الأمة. ويخالفه قولهم حكمة السؤال تمييز المؤمن من المنافق الذي يظهر الإسلام في الدنيا، وأما الكافر الجاحد فلا يسأل. قال الفاكهاني: إن الملائكة لا يسألون.
قال بعضهم: ووجهه ظاهر، فإن الملائكة إنما يموتون عند النفخة الأولى، أي فلم يبق منهم من يقع منه السؤال. وأما عذاب القبر فعام للمسلم والكافر والمنافق، فعلم الفرق بين فتنة القبر وعذابه، وهو أن الفتنة تكون بامتحان الميت بالسؤال، وأما العذاب فعام يكون ناشئاً عن عدم جواب السؤال، ويكون عن غير ذلك.
وقد اختص نبينا بسؤال أمته عنه، بخلاف بقية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وما ذاك إلا أن الأنبياء قبل نبينا كان الواحد منهم إذا أتى أمته وأبوا عليه اعتزلهم وعوجلوا بالعذاب. وأما نبينا ، فبعث رحمة بتأخير العذاب ولما أعطاه الله السيف دخل في دينه قوم مخافة من السيف، فقيض الله تعالى فتاني القبر ليستخرجا بالسؤال ما كان في نفس الميت فيثبت الله المسلم ويزل المنافق.
وفي بعض الآثار تكرر السؤال في المجلس الواحد ثلاث مرات. وفي بعضها أن المؤمن يسأل سبعة أيام والمنافق أربعين يوماً، أي قد يقع ذلك.
وفي بعض الآثار أن فتاني القبر أربعة: منكر، ونكير، وناكور، وسيدهم رومان وفي بعضها ثلاثة، أنكر، ونكير، ورومان. وقيل أربعة: منكر، ونكير يكونان للمنافق، ومبشر وبشير للمؤمن.

ونقل الحافظ السيوطي عن شيخه الجلال البلقيني رحمهما الله أن السؤال يكون بالسريانية، واستغربه وقال: لم أره لغيره. وفي كلام الحافظ السيوطي: لم يثبت في التلقين حديث صحيح ولا حسن، بل حديثه ضعيف باتفاق جمهور المحدثين. ولهذا ذهب جمهور الأمة إلى أن التلقين بدعة، وآخر من أفتى بذلك العز بن عبد السلام، وإنما استحسنه ابن الصلاح وتبعه النووي نظراً إلى أن الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال. وحينئذ فقول الإمام السبكي: حديث تلقين النبي صلى الله عليه وسلم لابنه ليس له أصل أي صحيح أو حسن.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 391
وقال في حق إبراهيم: «إن له ظئراً تتم رضاعه» وفي رواية «إن له ظئرين يكملان رضاعة في الجنة» وقال: «لو عاش لوضعت الجزية عن كل قبطي» وفي لفظ: «لأعتقت القبط وما استرق قبطي قط» وفي لفظ: «ما رق له خال».
قال بعضهم: معناه لو عاش فرآه أخواله القبط لأسلموا فرحاً به وتكرمة له، فوضعت الجزية عنهم، لأنها لا توضع على مسلم. ومعنى الثاني إذا أسلموا وهم أحرار لم يجر عليهم الرق، لأن الحر المسلم لا يجري عليه الرق.
وذكر أن الحسن بن علي رضي الله عنهما كلم معاوية في أن يضع الخراج عن أهل بلد مارية وهي حفنة بالحاء المهملة وإسكان الفاء وبالنون قرية من قرى الصعيد، ففعل معاوية ذلك رعاية لحرمتهم.

أي وقال النووي رحمه الله: وأما ما روي عن بعض المتقدمين لو عاش إبراهيم لكان نبياً فباطل، وجسارة على الكلام في المغيبات، ومجازفة وهجوم على بعض الزلات. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وهو عجيب مع وروده عن ثلاثة من الصحابة، وكأنه لم يظهر له وجه تأويله، وهو أن القضية الشرطية لا تستلزم الوقوع، أي وكان اللائق به أن يكون نبياً وإن لم يكن ذلك. ثم رأيت الجلال السيوطي رحمه الله نقل عن الأستاذ أبي بكر بن فورك وأقره: «أنه لما دفن ولده إبراهيم وقف على قبره وقال: يا بني إن القلب يحزن، والعين تدمع، ولا نقول ما يسخط الرب، إنا لله وإنا إليه راجعون» وكنى به ، فقد جاء: «أن جبريل عليه السلام قال له: السلام عليك يا أبا إبراهيم، إن الله قد وهب لك غلاماً من أم ولدك مارية، وأمرك أن تسميه إبراهيم، فبارك الله لك فيه، وجعله قرة عين لك في الدنيا والآخرة» زاد الحافظ الدمياطي رحمه الله: «فاطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك».
أقول: وسبب اطمئنانه بذلك أن مأبوراً كان يأوي إليها ويأتي إليها بالماء والحطب، فاتهمت به وقال المنافقون علج يدخل على علجة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فبعث علياً كرم الله وجهه ليقتله، فقال له علي كرم الله وجهه: يا رسول الله أقتله أو أرى فيه رأيي؟ فقال: بل ترى رأيك فيه، فلما رأى السيف بيد علي كرم الله وجهه تكشف، وفي لفظ: فإذا هو في ركي يتبرد، فقال علي كرم الله وجهه: اخرج، فناوله يده، فأخرجه فإذا هو مجبوب، أي ممسوح، فكف عنه علي كرم الله وجهه ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: أصبت، إن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب. أي وتكون هذه القضية متقدمة على قول جبريل عليه الصلاة والسلام المذكور، فالمراد مزيد الاطمئنان.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 391

وفي كلام بعضهم: «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على مارية رضي الله تعالى عنها وهي حامل بولده إبراهيم فوجد عندها من ذكر، فوقع في نفسه شيء، فخرج وهو متغير اللون، فلقيه عمر رضي الله تعالى عنه فعرف الغيظ في وجه رسول الله ، فسأله فأخبره، فأخذ عمر السيف ثم دخل على مارية رضي الله عنها وهو عندها فأهوى إليه بالسيف، فلما رأى ذلك كشف عن نفسه فإذا هو مجبوب فلما رآه عمر رضي الله عنه رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: ألا أخبرك يا عمر؟ إن جبريل عليه الصلاة والسلام أتاني فأخبرني أن الله برأها ونزهها مما وقع في نفسي، وبشرني أن في بطنها غلاماً مني، وأنه أشبه الخلق بي، وأمرني أن أسميه إبراهيم، وكناني بأبي إبراهيم، ولولا أني أكره أن أحول كنيتي التي تكنيت بها لتكنيت بأبي إبراهيم» والله أعلم.
أي وفي النور: إني لا أعرف في الصحابة خصياً إلا هذا وشخص آخر يقال له سفد، رآه مولاه يقبل جارية له فخصاه وجدعه، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه سيده. وفي كلام بعضهم عد ابن منده وأبو نعيم مأبوراً في الصحابة، وقد غلطا في ذلك، فإنه لم يسلم وما زال نصرانياً، ومنه أي بسببه فتح المسلمون مصر في خلافة عمر رضي الله عنه.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 391
باب ذكر أعمامه وعماته

أعمامه اثنا عشر، وهم: الحارث وهو أكبر أولاد جده عبد المطلب وبه كان يكنى. وشقيقه قثم وقد هلك صغيراً. وأبو طالب. والزبير. وعبد الكعبة، وهؤلاء الثلاثة أشقاء لعبد الله والد النبي . وقيل الحارث لا شقيق له، وحمزة وشقيقاه المقوم بفتح الواو وكسرها مشددة، وجحل بتقديم الجيم على الحاء، واسمه المغيرة، والجحل السقاء الضخم، أي وقيل بتقديم الحاء مفتوحة على الجيم، وهو في الأصل الخلخال. والعباس وشقيقه ضرار، وقد تقدم أن أم العباس رضي الله عنه أول من كست الكعبة الحرير، وأبو لهب واسمه عبد العزى، والغيداق واسمه معصب، وقيل نوفل، ولقب بالغيداق لكثرة جوده، أي لأنه كان أجود قريش وأكثرها طعاماً ومالاً، وذكر بعضهم في أعمامه العوام.
وعماته ست وهن: أم حكيم وعاتكة وبرة وأروى وأميمة، وهؤلاء الخمسة أشقاء لعبد الله والده وصفية: أي وهي شقيقة حمزة ولم يسلم من أعمامه الذين أدركوا البعثة إلا حمزة والعباس، وحكي إسلام أبي طالب وقد تقدم ما فيه ولم يسلم من عماته اللاتي أدركن البعثة من غير خلاف إلا صفية أي وهي أم الزبير بن العوام، أسلمت وهاجرت أي وماتت في خلافة عمر رضي الله عنه.
قيل وأسلمت عاتكة التي هي صاحبة الرؤيا يوم بدر، وقيل وأروى. قال بعضهم: والمشهور أن عاتكة لم تسلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 400
باب ذكر أزواجه وسراريه

لا يخفى أن أزواجه المدخول بهن اثنتا عشرة امرأة: خديجة رضي الله عنها، وهي أول نسائه وكانت قبله تحت أبي هالة بن زرارة التيمي، وقيل كانت تحت عتيق بن عائد الخزومي أولاً ثم تحت أبي هالة كما تقدم. وجاء: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب» أي ليس فيه رفع صوت ولا تعب: أي من درة مجوفة، فقد جاء: «أنها قالت له: يا رسول الله هل في الجنة قصب؟ فقال: إنه من لؤلؤ مجبى» بالجيم وبالموحدة مشددة: أي مجوف. وجوزيت رضي الله عنها بهذا البيت، لأنها أول من بنى بيتاً في الإسلام بتزوجها برسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء «من كسا مسلماً على عري كساه الله من حلل الجنة، ومن سقى مسلماً على ظمأ سقاه الله من الرحيق جزاء وفاقاً».
وعن عائشة رضي الله عنها: ما غرت على أحد ما غرت على خديجة رضي الله عنها، ولقد هلكت قبل أن يتزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت له يوماً وقد مدح خديجة رضي الله عنها: ما تذكر من عجوز حمراء الشدقين قد بدلك الله خيراً منها، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «والله ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي حين كذبني الناس، وواستني بمالها حين حرمني الناس، ورزقت منها الولد وحرمته من غيرها» واتفق له : «أنه أرسل لحماً لامرأة تناوله ودفعه لآخر يدفعه لها، فقالت له عائشة رضي الله عنها: لم تحرز يدك فقال: إن خديجة أوصتني بها، فقالت عائشة: لكأنما ليس في الأرض امرأة إلا خديجة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضباً، فلبث ما شاء الله ثم رجع، فإذا أم رومان أم عائشة رضي الله عنهما، فقالت يا رسول الله ما لك ولعائشة؟ إنها حديثة السن وأنت أحق من يتجاوز عنها، فأخذ بشدق عائشة رضي الله عنها، وقال: ألست القائلة: كأنما ليس على وجه الأرض امرأة إلا خديجة، والله لقد آمنت بي إذ كفر بي قومك ورزقت منها الولد وحرمتموه».

ثم سودة بنت زمعة أي وأمها من بني النجار لأنها بنت أخي سلمى بنت عمرو، أم عبد المطلب كما تقدم.
ثم أم عبد الله عائشة رضي الله عنها بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، اكتنت بابن أختها أسماء عبد الله بن الزبير رضي الله عنهم بإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فصار يقال لها أم عبد الله كما تقدم.
وقال لعائشة: «هو عبد الله وأنت أم عبد الله» قالت: فما زلت أكتنى به، أي وكان يدعوها أماً لأنه رضي الله عنه تربى في حجرها.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 400
ويقال إنها أتت منه بسقط: أي وسمي عبد الله. قال الحافظ الدمياطي ولم يثبت كما تقدم، وتزوجها بمكة في شوال وهي بنت سبع سنين، وبنى بها وهي بنت تسع سنين أي في شوال على رأس ثمانية أشهر من الهجرة على الصحيح كما تقدم، وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها: «أن رسول الله ، قال لها: أريتك في النوم مرتين، أرى ملكاً يحملك في سرقة» أي شقة حرير «فيقول: هذه امرأتك فأكشف فأراك فأقول، إن كان من عند الله يمضه» وقبض عنها وهي بنت ثمان عشرة ولم يتزوّج بكراً غيرها، وقبض ورأسه في حجرها، ودفن في بيتها كما سيأتي، وماتت وقد قاربت سبعاً وستين سنة في شهر رمضان سنة ثمان وخمسين، وصلى عليها أبو هريرة رضي الله عنه بالبقيع، وقيل سعيد بن زيد، ودفنت به ليلاً وذلك في زمن ولاية مروان بن الحكم على المدينة في خلافة معاوية. وكان مروان استخلف أبا هريرة رضي الله عنه لما ذهب إلى العمرة في تلك السنة.
ثم حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وهي شقيقة عبد الله بن عمر وأسن منه، وأمها زينب أخت عثمان بن مظعون، وكانت قبله تحت خنيس بن حذافة رضي الله عنه، فتوفي عنها بجراحة أصابته ببدر، وقيل بأحد وهو خطأ لما سيأتي من أن تزوّجه لها في شعبان على رأس ثلاثين شهراً من الهجرة قبل أحد بشهرين.

أقول: وكانت ولادتها قبل النبوة بخمس سنين وقريش تبني البيت. وماتت بالمدينة في شعبان سنة خمس وأربعين، وصلى عليها مروان بن الحكم، وهو أمير يومئذ، وحمل سريرها، وحمله أيضاً أبو هريرة رضي الله عنه وقد بلغت ثلاثاً وستين سنة. وقيل ماتت لما بويع معاوية سنة إحدى وأربعين والله أعلم، وطلقها .
وقيل في سبب طلاقها أنه كان في بيتها فاستأذنت في زيارة أبيها، أي وقيل في زيارة عائشة لأنهما كانتا متصادقتين: أي بينهما المصافاة فأذن لها، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مارية وأدخلها بيت حفصة وواقعها، فرجعت حفصة فأبصرت مارية مع النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها، فلم تدخل حتى خرجت مارية ثم دخلت، وقالت له: إني رأيت من كان معك في البيت وغضبت وبكت، أي وقالت: يا رسول الله لقد جئت إليّ بشيء ما جئت به إلى أحد من نسائك في يومي وفي بيتي وعلى فراشي، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهها الغيرة، قال لها: اسكتي فهي حرام عليّ أبتغي بذلك رضاك.
وفي رواية: «أما ترضين أن أحرمها على نفسي ولا أقربها أبداً؟ قالت: بلى، وحلف أن لا يقربها»: أي قال إنها حرام.
وفي رواية: «قد حرمتها عليّ، ومع ذلك أخبرك أن أباك الخليفة من بعد أبي بكر فاكتمي عليّ».
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 400

وفي رواية قال لها: «لا تخبري بما أسررت إليك» فأخبرت بذلك عائشة رضي الله عنهما، فقالت: قد أراحنا الله من مارية، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرمها على نفسه وقصت عليها القصة. وقيل خلا بمارية في يوم عائشة وعلمت بذلك حفصة، فقال لها: اكتمي عليّ قد حرمت مارية على نفسي، فأخبرت بذلك عائشة وكانتا متصادقتين بينهما المصافاة كما تقدم، فطلقها وأنزل الله تعالى عند تحريم مارية قوله: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك} إلى قوله: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} أي أوجب عليكم كفارة ككفارة أيمانكم، لأن الكفارة تحل ما عقدته اليمين لأن هذا ليس من الأيمان: أي واطلع الله رسوله على أن حفصة قد نبأت عائشة بما أسرّه إليها من أمر مارية وأمر الخلافة، فلما أخبر عائشة ببعض ما أسرته لها وهو أمر مارية وأعرض عما أسره إليها من أمر الخلافة أن ينتشر ذلك في الناس، قالت عائشة: من أنبأك هذا؟ قال: «نبأني العليم الخبير»، ومن ثم كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: والله إن خلافة أبي بكر وعمر لفي كتاب الله ثم يقرأ هذه الآية.
ولما أفشت حفصة رضي الله عنها سره طلقها كما تقدم، فجاءه جبريل عليه السلام يأمره بمراجعتها، لأنها صوامة قوامة، وإنها إحدى زوجاته في الجنة.
وفي رواية، تأتي: راجعها رحمة لعمر. وقيل همّ بتطليقها ولم يفعل، فقد جاء عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه أراد أن يطلقها، فقال له جبريل عليه السلام: إنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة. وعليه فيراد بالمراجعة المصالحة والرضا عنها كما سيأتي. قال في الينبوع: وهذا هو المشهور، فسيأتي ما يدل على صحته: أي والذي سيأتي قول عمر رضي الله عنه للنبي لما اعتزل نساءه: يا رسول الله أطلقتهن؟ قال لا.
وفيه أن هذا كان طلبهن منه النفقة، وهذه الواقعة غير تلك، وقيل في سبب نزول الآية غير ذلك.

وفي البخاري في سبب نزول الآية عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عسلاً عند زينب ابنة جحش ويمكث عندها، فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها، فلتقل له أكلت مغافير: أي أجد منك ريح مغافير، فدخل على حفصة رضي الله عنها، فقالت له ذلك، فقال لها: لا ولكني كنت أشرب عسلاً عند زينب ابنة جحش فلن أعود له، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحداً» أي لأنه لا يحب أن يظهر منه ريح كريهة، لأن المغافير صمغ العوسج من شجر الثمام كريه الريح.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 400

وعن عمر رضي الله عنه أن امرأته راجعته في شيء فأنكر عليها مراجعتها، فقالت له: عجباً لك يا ابن الخطاب: ما تريد أن تراجع، وإن ابنتك لتراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظل يومه غضبان، فقام عمر رضي الله عنه، فدخل على حفصة رضي الله عنها فقال لها: يا بنية إنك لتراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظل يومه غضبان، فقالت له حفصة: والله إنا لنراجعه، فقلت: تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسول الله ، يا بنية لا تغررك هذه التي أعجبها حسنها وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، يريد عائشة، قال: ثم دخلت على أم سلمة لقرابتي منها فكلمتها، فقالت: يا ابن الخطاب دخلت في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله وأزواجه، فأخذتني والله أخذاً كسرتني عن بعض ما كنت أجد، فخرجت من عندها، فأنا في منزلي، فجاءني صاحب لي من الأنصار، وأخبرني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتزل نساءه، فقلت: رغم أنف حفصة وعائشة فأخذت ثوبي وجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو في مشربة له يرقى إليها بعجلة، وهو جذع يرقى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشربة وينحدر منها عليه، وغلام له أسود يقال له رباح على رأس العجلة، فقلت له قل له هذا عمر بن الخطاب، فأذن لي: أي بعد أن قال له: يا رباح استأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، وفي كل مرة ينظر رباح إلى المشربة ولا يرد له جواباً، وفي الثالثة رفع له عمر رضي الله عنه صوته فأومأ إليه أن ارقَ، قال: فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصت عليه القصة، فلما بلغت حديث أم سلمة تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدم، ويأتي أن هذا كان عند اجتماعهن عليه في النفقة لا لأجل معاتبة الله إياه بسبب الحديث الذي أفشته حفصة. ويحتمل أنه لاجتماع الأمرين.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 400

وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لم أزل حريصاً على أن أسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المرأتين من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله تعالى فيهما: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} فقال: واعجباً لك يا ابن العباس هما عائشة وحفصة: أي فإن الله خاطبهما بقوله: {إن تتوبا إلى الله} أي فهو خير لكما {فقد صغت قلوبكما} أي مالتا عما يجب عليكما من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وابتغاء مرضاته، ثم استقبل الحديث قال: كنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة على الأنصار إذا قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نسائهم، فصخبت عليّ امرأتي فراجعتني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ولم تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل، فأفزعني ذلك منهن، فدخلت على حفصة، فقلت له: أتغاضب إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم اليوم حتى الليل؟ قالت: نعم فقلت: قد خبتِ وخسرت، أفتأمنين أن يغضب الله بغضب رسوله فتهلكي، لا تستكثري النبي ، ولا تراجعيه في شيء، ولا تهجريه، وسليني ما بدا لك، ولا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى النبي ، يريد عائشة، فأخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق نساءه، فقلت: قد خابت حفصة وخسرت، قد كنت أظن هذا، فدخلت على حفصة، فإذا هي تبكي، فقلت: ما يبكيك؟ ألم أكن حذرتك هذا؟ أطلقكن النبي ؟ قالت: لا أدري، ها هو معتزل في المشربة: أي الغرفة، فإنه لما عاتبه الله سبحانه بسبب الحديث الذي أفشته حفصة على عائشة حلف لا يدخل على نسائه شهراً، فصار يتغدى ويتعشى وحده في تلك المشربة، فجئت المشربة، فقلت لغلام أسود: استأذن لعمر، فدخل الغلام فكلم النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع، فقال: كلمته وذكرتك له فصمت، فانصرفت، ثم غلبني ما أجد، فجئت، فقلت للغلام: استأذن لعمر، فدخل ثم رجع إليّ فقال: ذكرتك له فصمت، فرجعت، ثم غلبني

ما أجد، فجئت الغلام، ثم قلت: استأذن لعمر، فدخل ثم رجع إليّ، فقال ذكرتك له، فصمت، فلما وليت منصرفاً إذا الغلام يدعوني، فقال: قد أذن لك النبي ، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو مضطجع على رمال حصير ليس بينه وبينه فراش، قد أثر الرمال بجنبه، متكئاً على وسادة من أدم حشوها ليف، فسلمت عليه ثم قلت له: وأنا قائم: يا رسول الله أطلقت نساءك؟ فرفع بصره إليّ فقال: لا، فقلت: الله أكبر، كنا معاشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة فإذا قوم تغلبهم نساؤهم، فتبسم رسول الله ، ثم قلت يا رسول الله لو رأيتني ودخلت على حفصة فقلت لها لا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى رسول الله ، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم تبسمة أخرى، فجلست حين رأيته تبسم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 400
وفي رواية أن عمر رضي الله عنه لما بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة حثا على رأسه التراب، وقال: ما يعبأ الله بعمر وابنته بعدها فنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم من الغد وقال: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة رحمة لعمر.
وقد يراد بالمراجعة المصالحة والرضا فلا ينافي ما تقدم أنه لم يطلقها وإنما أراد ذلك، ويدل له ما جاء عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما أنه أراد أن يطلقها فقال له جبريل عليه السلام: إنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة، ومن هذا وما يأتي يعلم أنه آلى من نسائه، وأما الظهار فلم يظاهر أبداً خلافاً لمن زعمه.

أي وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب اعتزاله لنسائه في المشربة أنه شجر بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين حفصة أمر، فقال لها: اجعلي بيني وبينك رجلاً، قالت: نعم، قال: فأبوك إذن، فأرسلت إلى عمر فجاء، فلما دخل عليهما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: تكلمي، فقالت: بل أنت يا رسول الله تكلم ولا تقل إلا حقاً، فرفع عمر رضي الله عنه يده فوجأها في وجهها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كف يا عمر، فقال عمر: يا عدوة الله، النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق، والذي بعثه بالحق لولا مجلسه ما رفعت يدي حتى تموتي، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فصعد إلى الغرفة، فمكث فيها شهراً لا يعرف شيئاً من نسائه ونزلت آية التخيير. ويقال: لا مانع من اجتماع هذا السبب مع ما تقدم.
ويروى أن سبب نزول آية التخيير أن نساءه اجتمعن عليه فسألنه النفقة ولم يكن عنده شيء فآلى أن لا يجتمع بهن شهراً وصعد المشربة الحديث.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: جاء أبو بكر يستأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فوجد الناس جلوساً ببابه ليؤذن لهم، قال فأذن لأبي بكر رضي عنه فدخل، ثم أقبل عمر ماشياً، فأذن له فدخل فوجد النبي صلى الله عليه وسلم حوله نساؤه: أي قد سأله النفقة وهو واجم ساكت لا يتكلم، فقال عمر رضي الله عنه: لأقولن شيئاً أضحك به النبي ، فقال: يا رسول الله لو رأيت فلانة يعني زوجته سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هن حولي كما ترى يسألنني النفقة، فقام أبو بكر رضي الله عنه إلى عائشة فوجأ عنقها، وقام عمر رضي الله عنه إلى حفصة فوجأ عنقها وكل يقول تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده ثم أقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يجتمع بهن شهراً.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 400

وفي رواية أخرى عن عمر رضي الله عنه أنه ذكر أن بعض أصدقائه من الأنصار جاء إليه ليلاً، فدق عليه بابه وناداه، قال عمر: فخرجت إليه فقال: حدث أمر عظيم، فقلت: ماذا أجاءت غسان، لأنا كنا حدثنا أن غسان تنعل الخيل لغزونا، فقال: لا، بل أمر أعظم من ذلك وأطول، طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، فقلت: خابت حفصة وخسرت، كنت أظن هذا كائناً حتى إذا صليت الصبح شددت علي ثيابي ودخلت على حفصة وهي تبكي، فقلت أطلقكن رسول الله ؟ قالت: لا أدري هو هذا معتزلاً في هذه المشربة: أي لأن نساءه لما اجتمعن عليه في طلب النفقة أقسم أن لا يدخل عليهن شهراً من شدة موجدته عليهن، قال عمر رضي الله عنه: لأقولن من الكلام شيئاً أضحك به النبي ، فأتيت غلاماً له أسود، فقلت له: استأذن لعمر، فدخل الغلام ثم خرج وقال: قد ذكرتك له فصمت، فانطلقت حتى أتيت المسجد، فجلست قليلاً، ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام، فقلت: استأذن لعمر، فدخل ثم خرج إليّ، فقال: قد ذكرتك له فصمت، فلما كان في المرة الرابعة وقال لي مثل ذلك وليت مدبراً، فإذا الغلام يدعوني، فقال: ادخل، قد أذن لك، فدخلت، فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو متكىء على رمل حصير قد أثر في جنبه، فقلت: أطلقت يا رسول الله نساءك؟ قال: فرفع رأسه إليّ وقال: لا، فقلت: الله أكبر، ثم قلت: كنا معاشر قريش بمكة نغلب على النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن منهن، فكلمت فلانة يعني زوجته فراجعتني، فأنكرت عليها، فقالت: تنكر أن راجعتك؟ فوالله لقد رأيت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل، فقلت: قد خاب من فعل ذلك وخسر، أتأمن إحداهن أن يغضب الله عليها لغضب زوجها رسول الله ، فذهبت إلى حفصة فقلت: أتراجعن رسول الله ؟ فقالت: نعم، وتهجره إحدانا اليوم إلى الليل، فقلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر، أتأمن إحداكن أن يغضب الله

عليها لغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسألينه شيئاً، وسليني ما بدا لك، ولا يغرنك أن كانت جارتك أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك؟ يعني عائشة رضي الله تعالى عنها، فتبسم أخرى، فقلت، أستأنس يا رسول الله؟ قال: نعم فجلست وقلت: يا رسول الله قد أثر في جنبك رمل هذا الحصير وفارس والروم قد وسع عليهم وهم لا يعبدون الله، فاستوى جالساً وقال: أفي شك أنت يا ابن الخطاب أولئك قوم قد عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، فقلت: أستغفر الله يا رسول الله، فلما مضى تسع وعشرون يوماً أنزل الله تعالى عليه أن يخير نساءه في قوله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك} الآية، فنزل ودخل على عائشة رضي الله تعالى عنها، فقالت له: يا رسول الله أقسمت أن لا تدخل علينا شهراً وقد دخلت وقد مضى تسع وعشرون يوماً أعددهن، فقال : إن الشهر تسع وعشرون. وفي رواية يكون هكذا وهكذا وهكذا، يشير بأصابع يديه وفي الثالثة حبس إبهامه، ثم قال : يا عائشة إني ذاكر لك أمراً: فلا عليك أن لا تعجلي. وفي رواية: إني أعرض عليك أمراً وأحب أن لا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك. قالت: وما هو يا رسول الله فقرأ عليّ: {يا أيها النبي قل لأزواجك} الآية، قلت: أفي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. وفي رواية: أفيك يا رسول الله أستشير أبويّ بل أريد الله ورسوله والدار الآخرة. قالت رضي الله تعالى عنها: ثم قلت له لا تخبره امرأة من نسائك بالذي قلت لك، فقال : لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها، إن الله لم يبعثني متعنتا ولكن بعثني معلماً ميسراً، ثم فعل بقية أزواجه مثل ما فعلت عائشة رضي الله تعالى عنهن.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 400

ثم زينب بنت خزيمة رضي الله تعالى عنها، وهي أخت ميمونة لأمها، كانت تدعى: أي في الجاهلية أم المساكين لرأفتها وإحسانها إليهم أي كما سمى جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه بأبي المساكين لحبه لهم، وجلوسه عندهم، وتحدثه معهم، وإحسانه إليهم رضي الله تعالى عنه، كانت قبله تحت الطفيل بن الحارث، فطلقها فتزوجها أخوة عبيدة بن الحارث، فقتل يوم بدر شهيداً، فخطبها ، فجعلت أمرها إليه فتزوجها وأصدقها اثنتي عشرة أوقية ونشا، أي وذلك على رأس أحد وثلاثين شهراً من الهجرة قبل أحد بشهر. وفي لفظ أن عبيدة بن الحارث قتل عنها يوم أحد فخلف عليها رسول الله . وفي لفظ أنها كانت تحت عبد الله بن جحش، قتل عنها يوم أحد، فتزوجها رسول الله . قال في المواهب: وهو أصحّ.
وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله عروساً بزينب، فعمدت أم سليم إلى تمر وسمن وأقط، فصنعت حيساً فجعلته في تور، فقالت: يا أنس اذهب بهذا إلى رسول الله ، فقل: بعثت بهذا إليك أمي وهي تقرئك السلام، فقال : ادع لي فلاناً وفلاناً رجالاً سماهم، وادع لي من لقيت، فدعوت من سمى ومن لقيت، فرجعت، فإذا البيت غاصّ، بأهله، قيل لأنس: ما عددهم؟ قال: كانوا ثلاثمائة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده الشريفة على تلك الحيسة وتكلم بما شاء الله، ثم جعل يدعو عنده عشرة يأكلون منه، ويقول لهم: اذكروا الله وليأكل كل رجل مما يليه، فأكلوا حتى شبعوا كلهم، ثم قال لي: يا أنس ارفع فرفعت، فما أدري حين وضعت كان أكثر أو حين رفعت، فمكثت عنده ثمانية أشهر وقيل شهران أو ثلاثة، ثم توفيت وصلى عليها رسول الله ، ودفنت بالبقيع، وقد بلغت ثلاثين سنة أو نحوها. ولم يمت من أزواجه في حياته إلا هي وخديجة رضي الله تعالى عنهما.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 400

ثم تزوج بعد زينب هذه أم سلمة. واسمها هند. وكانت قبله عند أبي سلمة رضي الله تعالى عنه عبد الله بن عبد الأسد ابن عمته برة بنت عبد المطلب، وأخوه من الرضاعة، وكانت هي أول من هاجر إلى الحبشة على ما تقدم، فلما مات أبو سلمة رضي الله تعالى عنه، قال لها رسول الله: سلي الله أن يؤجرك في مصيبتك ويخلفك خيراً، فقالت: ومن يكن خيراً من أبي سلمة؟ ولما اعتدت أم سلمة رضي الله تعالى عنها أرسل يخطبها مع حاطب بن أبي بلتعة رضي الله تعالى عنه، أي وكان خطبها أبو بكر رضي الله تعالى عنه فأبت، وخطبها عمر فأبت، فلما جاءها حاطب، قالت: مرحباً برسول الله ، تقول له: إني امرأة مسنة، وإني أم أيتام: أي لأنها رضي الله تعالى عنها كان معها أربع بنات: برة وسلمة وعمرة ودرة، وإني شديدة الغيرة، فأرسل يقول لها: أما قولك إني امرأة مسنة فأنا أسن منك، ولا يعاب على المرأة أن تتزوج أسن منها. وأما قولك: إني أم أيتام فإن كلهم على الله وعلى رسوله. وأما قولك: إني شديدة الغيرة فإني أدعو الله أن يذهب ذلك عنك. أي وفيه أنهم قالوا: يا رسول الله ألا تتزوج من نساء الأنصار؟ قال: إن فيهن غيرة شديدة. وفي لفظ أنها قالت زيادة على ما تقدم: ليس لي ههنا أحد من أوليائي فيزوجني، فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: أما ما ذكرت من غيرتك فإني أدعو الله أن يذهبها عنك. وأما ما ذكرت من صبيتك فإن الله سيكفيهم. وأما ما ذكرت من أوليائك فليس أحد من أوليائك يكرهني، فقالت لابنها: زوج رسول الله ، فزوجه أي على متاع منه رحى وجفنة وفراش حشوه ليف، وقيمة ذلك المتاع عشرة دراهم، وقيل أربعون درهماً. قالت: فتزوجني رسول الله ، وأدخلني بيت زينب أم المساكين رضي الله تعالى عنها بعد أن ماتت، فإذا جرة فيها شيء من شعير، وإذا رحى وبرمة وقدر وكعب: أي ظرف الأدم، فأخذت ذلك الشعير فطحنته ثم عصدته في البرمة، وأخذت الكعب فأدمته، فكان ذلك طعام رسول الله صلى الله عليه

وسلم وطعام أهله ليلة عرسه.
وماتت أم سلمة رضي الله تعالى عنها في ولاية يزيد بن معاوية، وكان عمرها أربعاً وثمانين سنة ودفنت بالبقيع وصلى عليها أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، وقيل سعيد بن زيد وغلط قائله.
وذكر بعضهم أن تزويج ولدها لها رضي الله تعالى عنهما إنما كان بالعصوبة لأنه كان ابن ابن عمها.
ثم تزوج بعد أم سلمة رضي الله تعالى عنها زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها، وكان اسمها برة، فسماها زينب: أي خشي أن يقال خرج من عند برة، وهي بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب وكانت قبله عند مولاه زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما ثم طلقها، فلما انقضت عدتها زوجه الله إياها، أي لأنه أرسل زيد بن حارثة يخطبها له ، قال زيد: فذهبت إليها فجعلت ظهري إلى الباب فقلت: يا زينب بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك، فقالت: ما كنت لأحدث شيئاً حتى أؤامر ربي عز وجل، فأنزل الله تعالى: {فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها} فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذن، فكانت رضي الله تعالى عنها تفتخر بذلك على نسائه وتقول: إن الله أنكحني إياه من فوق سبع سموات، وهذا يرد ما قيل إن أخاها أبا أحمد بن جحش زوجها منه .
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 400
قال في النور: ويمكن تأويل تزويج أخيها إياها.

أي وقد ذكر مقاتل رحمه الله أن زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما لما أراد أن يتزوج زينب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله اخطب علي، قال له: من؟ قال: زينب بنت جحش، قال: لا أراها تفعل، إنها أكرم من ذلك نفساً، فقال: يا رسول الله إذا كلمتها أنت وقلت زيد أكرم الناس عليّ فعلت، فقال : إنها امرأة لسناء، فذهب زيد رضي الله تعالى عنه إلى عليّ كرم الله وجهه، فحمله على أن يكلم له النبي ، فانطلق معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه، فقال إني فاعل ذلك ومرسلك يا علي إلى أهلها فتكلمهم، ففعل، ثم عاد يخبره بكراهتها وكراهة أخيها لذلك، فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم يقول: قد رضيته لكم، وأقضي أن تنكحوه، فأنكحوه، وساق لهم عشرة دنانير وستين درهماً ودرعاً وخماراً وملحفة وإزاراً وخمسين مداً من الطعام وعشرة أمداد من التمر أعطاه ذلك كله رسول الله ، وأولم عليها، وأطعم المساكين خبزاً ولحماً: أي وتزوجها هلال ذي القعدة سنة أربع من الهجرة على الصحيح وهي بنت خمس وثلاثين سنة، وقيل نزلت في ذلك اليوم آية الحجاب، فإنه لما دعا القوم وطعموا تهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام وقام من قام وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس فلم يدخل، فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي} الآية وتكلم في ذلك المنافقون وقالوا: محمد حرم نساء الأولاد، وقد تزوج امرأة ابنه أي لأن زيد بن حارثة كان يقال له زيد بن محمد: أي لأنه كان تبناه كما تقدم، فأنزل الله تعالى: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم} وأنزل {أدعوهم لآبائهم} فمن حينئذ كان يقال له رضي الله تعالى عنه زيد بن حارثة كما تقدم.

وهي أول نسائه لحوقاً به. ماتت رضي الله تعالى عنها بالمدينة سنة عشرين، ودفنت بالبقيع ولها من العمر ثلاث وخمسون سنة. وصلى عليها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، أي فإن عمر رضي الله تعالى عنه أرسل إلى زينب رضي الله تعالى عنها بالذي لها من العطاء، فسترته بثوب، وأمرت بتفرقته، فكان خمسة وثمانين درهماً، ثم قالت: اللهم لا تدركني عاماً لعمر بعد عامي هذا فماتت.
وهي أول من جعل على نعشها قبة، أي بعد فاطمة رضي الله تعالى عنها، فلا يخالف ما سبق مما ظاهره أنه فعل لها ذلك.
وفي كلام بعضهم أن زينب هذه أول من حمل على نعش، وقيل أول من حمل على نعش فاطمة رضي الله تعالى عنها، وكانت عائشة رضي الله تعالى عنها تقول في حقها: هي التي كانت تساويني في المنزلة عند رسول الله ، وما رأيت امرأة قط خيراً في الدين وأتقى لله وأصدق في حديث وأوصل للرحم وأعظم صدقة من زينب رضي الله تعالى عنها.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 400
وقال في حقها: إنها لأواهة، فقال رجل: يا رسول الله ما الأواه؟ قال: الخاشع المتضرع. وهي أول نسائه لحوقاً به كما تقدم. وقال له بعض نسائه: أينا أسرع بك لحوقاً؟ قال: أطولكن يداً، فأخذن قصبة يذرعنها، وفي لفظ عن عائشة رضي الله تعالى عنها: فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم نمد أيدينا في الجدار نتطاول، فكانت سودة رضي الله تعالى عنها أطولهن، فلما ماتت زينب رضي الله تعالى عنها، أي وكانت امرأة قصيرة علموا أن المراد بطول اليد الصدقة، لأنها كانت تعمل وتتصدق لا الجارحة وما في البخاري من أنها سودة، قال ابن الجوزي: غلط من بعض الرواة.

والعجب من البخاري رحمه الله كيف لم ينبه عليه ولا علم بفساد ذلك الخطأ، فإنه قال: لحوق سودة به من أعلام النبوّة وكل ذلك وهم، وإنما هي زينب فإنها كانت أطولهن يداً بالعطاء. وجمع الطيبي رحمه الله بأنه يمكن أن يقال إن سودة رضي الله تعالى عنها أوّل نسائه موتاً التي اجتمعن عند موته، وكانت زينب رضي الله تعالى عنها غائبة.
وفيه أن في رواية أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم اجتمعن عنده لم يغادر منهن واحدة أي فقد قال له بعضهن. وفي لفظ قلن له: أينا أسرع لحوقاً بك يا رسول الله؟ وقد قال الإمام النووي: أجمع أهل السيرة على أن زينب رضي الله تعالى عنها أوّل من مات من أزواجه بعده.
ثم جويرية رضي الله تعالى عنها بنت الحارث من بني المصطلق. سبيت في غزوة بني المصطلق، ووقعت في سهم ثابت بن قيس، فكاتبها على تسع أواق، فأدى عليه الصلاة والسلام عنها ذلك وتزوّجها.
وقيل جاء أبوها فافتداها، ثم نكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم. وقيل إنها كانت بملك اليمين فأعتقها وتزوّجها، وكان اسمها برة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية، أي لما تقدم. وكانت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند مسافع بن صفوان، وتقدم عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت كانت جويرية عليها ملاحة وحلاوة، لا يكاد يراها أحد إلا وقعت بنفسه. وكانت بنت عشرين سنة. أي وتوفيت في المدينة سنة ست وخمسين، وصلى عليها مروان بن الحكم، وهو والي المدينة يومئذ، وقد بلغت سبعين سنة، وقيل خمساً وستين سنة.

ثم ريحانة بنت يزيد من بني النضير. وقيل من بني قريظة، وكانت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند رجل من بني قريظة، يقال له الحكم. قال الحافظ الدمياطي رحمه الله: ولذلك ينسبها بعض الرواة إلى بني قريظة، وكانت جميلة وسيمة، وقعت في سبي بني قريظة، فكانت صفيّ رسول الله ، فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الإسلام ودينها، فاختارت الإسلام، فأعتقها وتزوّجها، وأصدقها اثنتي عشرة أوقية ونشاً، وقيل كانت موطوءة له بملك اليمين.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 400
أي فقد ذكر بعضهم أنه خيرها بين أن يعتقها ويتزوّجها، وبين أن تكون له في ملكه، وعليه فتكون من السراري لا من الزوجات.
قال الحافظ الدمياطي: والأوّل، أي أنها زوجة أثبت عند أهل العلم. وقال العراقي إن الثاني: أي كونها سرية أضبط. ودخل بها بعد أن حاضت حيضة أي وذلك في بيت أمّ المنذر سلمى بنت قيس النجارية سنة ست من الهجرة، وغارت عليه غيرة شديدة فطلقها فأكثرت البكاء، فراجعها ، وهذا مؤيد للقول بأنها كانت زوجة.
قيل ماتت مرجعه من حجة الوداع ودفنها بالبقيع.
ثم أم حبيبة رضي الله عنها، وهي رملة بنت أبي سفيان بن حرب رضي الله تعالى عنهما وهي بنت عمة عثمان بن عفان. هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، فولدت له حبيبة وبها كانت تكني، وهي ربيبة رسول الله ، وكانت في حجره رضي الله تعالى عنها، وتنصر عبيد الله بن جحش هناك وثبتت هي على الإسلام رضي الله تعالى عنها.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي رحمه الله فزوّجه إياها، وأصدقها النجاشي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة دينار، أي والذي تولى عقد النكاح خالد بن سعيد بن العاص على الأصح وكلته في ذلك، وهو ابن عم أبيها.

وقيل الذي تولى عقد النكاح عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، وقيل كان الصداق أربعة آلاف درهم، وجهزها النجاشي من عنده، وأرسلها مع شرحبيل بن حسنة في سنة سبع. وقيل تزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وعليه يحمل ما في كلام العامري أن النبي صلى الله عليه وسلم جدد نكاح أم حبيبة رضي الله تعالى عنها بنت أبي سفيان رضي الله تعالى عنه تطييباً لخاطره.
ثم صفية رضي الله تعالى عنها بنت حيي بن أخطب سيد بني النضير، قتل مع بني قريظة كما تقدم. وكانت عند سلام بن مشكم، ثم خلف عليها كنانة بن أبي الحقيق، وقتل عنها يوم خيبر، وتقدمت قصة قتله في خيبر، ولم تلد لأحد منهما، واصطفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه فأعتقها وتزوجها، وجعل عتقها صداقها، لأنه لما جمع سبي خيبر جاءه دحية الكلبي رضي الله تعالى عنه. فقال: يا رسول الله أعطني جارية من السبي فقال: اذهب فخذ جارية، فأخذ صفية رضي الله تعالى عنها. فقيل: يا رسول الله إنها سيدة بني قريظة والنضير لا تصلح إلا لك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم خذ جارية من السبي غيرها، فحجبها وجهزتها له أم سليم رضي الله تعالى عنها، وأهدتها له من الليل وكان عمرها لم يبلغ سبع عشرة سنة، فأولم عليها بتمر وسويق.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 400
وفي لفظ: لما أصبح قال: من كان عنده شيء فليجيء به، فبسط نطعاً، فجعل الرجل يأتي بالأقط، وجعل الرجل يأتي بالتمر، وجعل الرجل يأتي بالسمن، فحاسوا حيساً، فكانت وليمة رسول الله .

وعن أنس قال: كانت صفية عاقلة فاضلة، ودخل عليها يوماً وهي تبكي. فقال لها في ذلك؟ فقالت قد بلغني أن عائشة وحفصة ينالان مني، ويقولان: نحن خير من صفية، نحن بنات عم رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولي لهن: كيف تكن خيراً مني، وأبي هارون، وعمي موسى عليهما الصلاة والسلام، وزوجي محمد : أي فهي بنت نبي وزوج نبي، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أثراً في وجهها، فسألها عن ذلك. فقالت: رأيت كأن القمر وقع في حجري، فذكرت ذلك لأبي. وتقدم في رواية أنها ذكرت ذلك لزوجها كنانة، فضرب وجهي ضربة أثرت فيّ هذا الأثر، وقال: إنك لتمدين عنقك إلى أن تكوني عند ملك العرب.
ولا مانع من تعدد الواقعة. فقد قال في النور: لعلهما فعلا بها ذلك، وتقدم في رواية أنها رأت الشمس وقعت على صدرها، وتقدم أنه يجوز تعدد الرؤيا، أو أنها رأت الشمس والقمر في وقت واحد.
وفي زمن خلافة عمر رضي الله عنه أتت جارية لها إلى عمر رضي الله عنه، فقالت له: يا أمير المؤمنين إن صفية تحبّ السبت وتصل اليهود، فسألها عمر رضي الله عنه، فقالت: أما السبت فإني لا أحبه منذ أبدلني الله به الجمعة. وأما اليهود، فإن لي فيهم رحماً، فأنا أصلها، ثم قالت للجارية: ما حملك على ما صنعت؟ قالت: الشيطان، قالت: اذهبي فأنت حرة.
قال الحافظ الدمياطي رحمه الله: ماتت في رمضان سنة خمسين. وقيل سنة اثنتين وخمسين ودفنت بالبقيع. وخلفت ما قيمته مائة ألف درهم من أرض وعرض. وأوصت لابن أختها بثلثها وكان يهودياً.
وذكر الرافعي رحمه الله عن إمامنا الشافعي رضي الله عنه أنها أوصت لأخيها، وكان يهودياً بثلاثين ألفاً، أي وهذا لا يعارض ما ذكر لأنه لا يجوز أن يكون من روى عنه إمامنا لم يعتبر ما زاد على الثلاثين الذي هو تتمة الثلث، وهو ثلاثة وثلث، لأن ثلث المائة ثلاثة وثلاثون وثلث، أو أن القائل أوصت بثلثها تجوّز وأطلق على الثلاثين ثلثاً.

ثم ميمونة رضي الله عنها بنت الحارث، وكان اسمها برة فسماها ميمونة، زوّجها له عمه العباس رضي الله عنه، وهي خالة ابنه عبد الله بن عباس، وأختها أسماء بنت عميس وسلمى بنت عميس وزينب بنت خزيمة أم المؤمنين، وخالة خالد بن الوليد رضي الله عنه. وكانت في الجاهلية عند مسعود بن عمرو ففارقها، فخلف عليها أبو رهم فتوفي عنها فتزوجها وهو محرم، أي كما عليه جمهور علماء المدينة في عمرة القضاء.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 400
وفي الهدى: يشبه أنه تزوج ميمونة وهو محرم خلافاً لابن عباس ووهمه في ذلك، قال: لأن السفير بينهما في النكاح وهو أبو رافع أعلم بالقصة وهو رجل بالغ، وابن عباس كان سنه نحو عشر سنين. قال: ولا يخفى أن مثل هذا الترجيح موجب للتقديم، وكان ذلك سنة سبع.
وأقام بمكة ثلاثاً وبنى بها بسرف بعد أن أحل على ما تقدم، وماتت سنة إحدى وخمسين على الأصح وبلغت ثمانين سنة، ودفنت بسرف الذي هو محل الدخول بها.
والحاصل أن جملة من خطبه من النساء ثلاثون امرأة منهن من لم يعقد عليه ومنهن من عقد عليه، وهذا القسم أيضاً منه من دخل به ومنه من لم يدخل به.
وفي لفظ: جملة من عقد عليه ثلاث وعشرون امرأة، والذي دخل به منهن اثنتا عشرة.
فمن غير المدخول بها غزية، وهي أم شريك العامرية، وهذه قبل دخوله بها طلقها ولم يراجعها. وهناك أم شريك أخرى، وهي خولة أو خويلة ولم يدخل بها. وهناك أم شريك ثالثة وهي الغفارية. وأم شريك رابعة وهي الأنصارية.
واختلف في الواهبة نفسها، فقيل ميمونة، وقيل أم شريك غزية، وقيل أم شريك خولة التي لم يدخل بها.

ورجح القول الثاني الحصني حيث اقتصر عليه في كتاب المؤمنات، فقال: ومنهن أم شريك، واسمها غزية، وهي التي وهبت نفسها للنبي فلم يقبلها على ما قاله الأكثرون، فلم تتزوج حتى مات عليه الصلاة والسلام. قال ابن عباس رضي الله عنهما: وقع في قلب أم شريك الإسلام وهي بمكة فأسلمت، ثم جعلت تدخل على نساء قريش سراً فتدعوهن للإسلام وترغبهن فيه حتى ظهر أمرها لأهل مكة فأخذوها، وقالوا لولا قومك لفعلنا بك وفعلنا، ولكنا نسيرك إليهم، قالت: فحملوني على بعير ليس تحتي شيء ثم تركوني ثلاثاً لا يطعموني ولا يسقوني، وكانوا إذا نزلوا منزلاً أوقفوني في الشمس واستظلوا، فبينما هم قد نزلوا منزلاً وأوقفوني في الشمس إذا أنا بأبرد شيء على صدري فتناولته، فإذا هو دلو من ماء، فشربت قليلاً ثم نزع مني ورفع، ثم عاد فتناولته فشربت من ثم رفع، ثم عاد ثم رفع مراراً فشربت منه حتى رويت ثم أفضت سائرة على جسدي وثيابي، فلما استيقظوا إذا هم بأثر الماء على ثيابي فقالوا: انحللت فأخذت سقاءنا فشربت منه، فقلت: لا والله، ولكنه كان من الأمر كذا وكذا، فقالوا: لئن كنت صادقة لدينك خير من ديننا، فلما نظروا إلى أسقيتهم وجدوها كما تركوها فأسلموها عند ذلك، وأقبلت إلى النبي ، فوهبت نفسها له بغير مهر فقبلها ودخل عليها.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 400
قال:وفي ذلك أن من صدق في حسن الاعتماد على الله وقطع طعمه عما سواه جاءته الفتوحات من الغيب، هذا كلامه.
وقد كان أرجأ من نسائه خمساً: سودة وصفية وجويرية وأم حبيبة وميمونة، وآوى إليه أربعاً: عائشة وزينب وأم سلمة وحفصة، وهؤلاء التسعة مات عنهن . وقد نظمهن بعضهم فقال:
توفي رسول الله عن تسع نسوة
إليهن تعزى المكرمات وتنسب
فعائشة ميمونة وصفية
وحفصة تتلوهن هند وزينب
جويرية مع رملة ثم سودة
ثلاث وست ذكرهن مهذب

ومن جملة اللاتي لم يدخل به النبي صلى الله عليه وسلم التي ماتت من الفرح، لما علمت أنه تزوج بها وهي عز أخت دحية الكلبي رضي الله تعالى عنهما التي ماتت قبل دخوله بها.
ومن جملتهن سودة القرشية التي خطبها فاعتذرت ببنيها، وكانوا خمسة، وقيل ستة، فقال لها خيراً.
ومن جملتهن التي تعوذت منه ، فقالت: أعوذ بالله منك، فقال لها: لقد عذت بمعاذ، وقد أعاذك الله مني. وفي لفظ: عذت بعظيم، وفي لفظ: عائذ الله.
وفي كلام بعضهم أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم خفن أن تغلبهن عليه لجمالها، فقلن لها: إنه يعجبه إذا دنا منك أن تقولي له أعوذ بالله منك، فلما دنا منها قالت: أعوذ بالله منك. وفي رواية: قلن لها: إن اردت أن تحظي عنده فتعوّذي بالله منه فلما دخل عليها قالت له: أعوذ بالله منك، فصرف وجهه عنها وقال ما تقدم وطلقها، وأمر أسامة رضي الله تعالى عنه فمتعها بثلاثة أثواب.
وفي لفظ أتى أبو أسيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجونية: أي أسماء بنت النعمان بن أبي الجون الكندية، فلما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاها فقالت تعال أنت. وفي رواية فقال: هبي نفسك، فقالت: تهب الملكة نفسها للسوقة، فأهوى بيده إليها لتسكت، فقالت: أعوذ بالله منك، قال: عذت بمعاذ، فخرج فقال: يا أبا أسيد اكسها رازقيين وألحقها بأهلها، وهذا هو المشهور.
وروي هذا الخبر عن أسيد بن أبي أسيد قال: «بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى امرأة يتزوجها من بلجون: أي من بني الجون، فجئت بها، فأنزلتها بالشعب في أجم ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله جئتك بأهلك، فأتاها ، فأهوى إليها ليقبلها فقالت: أعوذ بالله منك» الحديث.
ومن جملتهن التي اختارت الدنيا. وقيل التي كانت تلتقط البعر هي المستعيذة منه.

ومن جملتهن قتيلة بضم القاف وفتح الباء المثناة فوق، بنت قيس أخت الأشعث بن قيس الكندي، زوجه إياها أخوها وهي بحضرموت، ومات قبل قدومها عليه، وأوصى بأن تخير، فإن شاءت ضرب عليها الحجاب وكانت من أمهات المؤمنين، وإن شاءت الفراق فتنكح من شاءت فاختارت الفراق، فتزوجها عكرمة بن أبي جهل رضي الله تعالى عنه بحضرموت، فبلغ ذلك أبا بكر رضي الله تعالى عنه قال: هممت أن أحرق عليها بيتها، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: ما هي من أمهات المؤمنين، ما دخل بها ولا ضرب عليها الحجاب، وقال : «ما تزوجت شيئاً من نسائي ولا زوجت شيئاً من بناتي إلا بوحي جاءني به جبريل عليه الصلاة والسلام من ربي عز وجل» أي وعنه أن خديجة رضي الله تعالى عنها تزوجها قبل نزول الوحي.
أي وقد ألف في أزواجه الحافظ الدمياطي جزءاً فليطلب، وكذا ألف فيهن الشمس الشامي.
وأما سراريه فأربع: مارية القبطية أم ولده سيدنا إبراهيم، وريحانة على ما تقدم، وجارية وهبتها له زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها، أخرى اسمها زليخة القرظية.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 400
باب ذكر المشاهير من خدمه من الأحرار
فمن الرجال أنس بن مالك الأنصاري رضي الله تعالى عنه، كان من أخص خدامه . خدمه من حين قدم المدينة إلى وفاته عشر سنين كما تقدم. فعن أنس رضي الله تعالى عنه: «لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أخذ أبو طلحة يعني زوج أمه بيدي فانطلق بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أنساً غلام كيس فليخدمك، فخدمته في السفر والحضر، وتقدم في بعض الروايات أن ابتداء خدمته له كان عند خروجه إلى خيبر، ومات وقد جاوز المائة.
وعبد الله مسعود رضي الله تعالى عنه، كان صاحب سواكه ونعله ، إذا قام ألبسه إياهما، فإذا جلس جعلهما في ذراعيه حتى يقوم. وكان رضي الله تعالى عنه يمشي بالعصا أمامه حتى يدخل الحجرة.

أي ومعيقيب الرومي رضي الله تعالى عنه، كان صاحب خاتمه .
وعقبة بن عامر الجهني رضي الله تعالى عنه، كان صاحب بغلته ، يقودها في الأسفار، وكان عالماً بكتاب الله عز وجل وبالفرائض، فصيحاً، شاعراً مفهماً. ويأتي أنه ولي مصر لمعاوية رضي الله تعالى عنهما وتوفي بها، وصرف عنها بمسلمة بن مخلد رضي الله تعالى عنه.
وأسقع بن شريك، صاحب راحلته . كان رضي الله تعالى عنه يرحل ناقته «وعنه أنه قال له ذات يوم: يا أسقع، قم فارحل، فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء، فسكت وجاءه جبريل عليه الصلاة والسلام بآية التيمم، فقال رسول الله ، قم يا أسقع فتيمم، فأراني التيمم ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، فقمت وتيممت ثم رحلت له ، ثم سار حتى مر بماء، فقال لي: يا أسقع أمسّ هذا جلدك. وتقدم أن سبب نزول آية التيمم ضياع عقد عائشة رضي الله تعالى عنها في بعض الغزوات.
وبلال مؤذنه . وكان رضي الله تعالى على نفقاته، وهو مولى أبي بكر رضي الله تعالى عنه، أي لأنه الذي اشتراه وهو يعذب في الله وأعتقه كما تقدم.
ومن النساء أمة الله بنت رزينة، وخولة، ومارية أم الرباب، ومارية وجدة المثنى بن صالح، وقيل التي قبلها.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 419
باب ذكر المشاهير من مواليه الذين أعتقهم
فمن الرجال زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما، كما تقدم أن خديجة رضي الله تعالى عنها وهبته له قبل النبوة، فتبناه . وكان يقال له ابن محمد، فلما نزل: {ادعوهم لآبائهم} أي وقوله تعالى: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم} الآية قيل له زيد بن حارثة كما تقدم. وكان حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنه أسامة وأخو أسامة لأمه أيمن ابن أم أيمن بركة الحبشية رضي الله تعالى عنهم.

وأبو رافع كان قبطياً، وكان للعباس رضي الله تعالى عنهما فوهبه للنبي . ولما أسلم العباس وبشر أبو رافع رضي الله تعالى عنه النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام العباس أعتقه.
وشقران كان حبشياً، وقيل فارسياً، وكان لعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه، فوهبه للنبي .
وثوبان. وأنجشة، اشتراه منصرفه من الحديبية وأعتقه. وكان رضي الله تعالى عنه يحدو بالنساء، قال له وقد حدا بهن: رويداً يا أنجشة، وفقاً بالقوارير، يعني النساء، لأن الحداء إذا سمعته الإبل أسرعت في المشي فتزعج الراكب والنساء يضعفن من شدة الحركة، وشبههن في ضعفهن بالقوارير وهي الأواني من الزجاج.
ورباح كان أسود ويسار كان نوبياً على لقاح رسول الله ، وهو الذي قتله العرنيون. وقد تقدم أن هذا غير يسار الذي كان دليلاً لسرية غالب بن عبد الله الليثي إلى الميفعة.
وسفينة وكان أسود، وكان لأم سلمة رضي الله تعالى عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم فأعتقته، واشترطت عليه أن يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عاش. وكان اسمه بهران. وقيل رومان وقيل غير ذلك، وإنما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سفينة لأنه حمل أمتعة للصحابة رضي الله تعالى عنهم ثقلت عليهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: احمل فإنما أنت سفينة، قال رضي الله تعالى عنه: فلو حملت يومئذ وقر بعير أو بعيرين إلى أن عدّ سبعة ما ثقل عليّ. وقيل لأنه انكسرت به السفينة في البحر فركب لوحاً من ألواحها فنجا.
وذكر أن البحر ألقاه على أجمة سَبُع فأقبل نحوه، فقال له: أبا الحارث أنا مولى رسول الله ، فجاء إليّ وضربني بمنكبيه ثم مشى أمامي حتى أقامني على الطريق ثم همهم وضربني بذنبه فرأيت أنه يودعني. وقيل إنما وقع له ذلك لما أضل الجيش الذي كان فيه بأرض الروم.
وسلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، أي لأنه هو الذي أدى عنه نجوم كتابته، وفي كونه رقيقاً ما تقدم.

أي والخصي الذي أهداه له المقوقس الذي هو مأبور المتقدم ذكره. وآخر يقال له سندر.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 421
وفي كلام بعضهم أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه أربعين رقبة. ومن النساء أم أيمن وأميمة وسيرين التي أهديت له مع مارية، أي وتقدم أنها أختها.
وذكر بعضهم أن سيرين هذه وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه.وتقدم أن المقوقس أهدى معهما قنسر وأنها أخت مارية وسيرين فهن الثلاث أخوات، وتقدم أنه أهدى إليه رابعة.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 421
باب ذكر المشاهير من كتّابه
فقد ذكر بعضهم أن كتابه كانوا ستة وعشرين كاتباً على ما ثبت عن جماعة من ثقات العلماء.
وفي السيرة للعراقي أنهم كانوا اثنين وأربعين، منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري. وهو أول من كتب له من قريش بمكة ثم ارتد وصار يقول كنت أصرّف محمداً حيث أريد، كان يملي عليّ عزيز حكيم، فأقول أو عليم حكيم، فيقول: نعم، كل صواب. وفي لفظ: كان يقول اكتب كذا، قأقول أكتب كذا؟ فيقول اكتب كيف شئت، ونزل فيه: {فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً}.
أي ثم لما كان يوم الفتح، وأمر بقتله فر إلى عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، لأنه كان أخاه من الرضاعة، أرضعت أمه عثمان فغيبه عثمان رضي الله تعالى عنه ثم جاء به بعدما اطمأن الناس، واستأمن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فصمت له رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلاً ثم قال نعم، فلما انصرف عثمان قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن حوله: ما صمتّ عنه إلا لتقتلوه إلى آخر ما تقدم. ثم أسلم وحسن إسلامه، ودعا الله تعالى أن يختم عمره بالصلاة، فمات ساجداً في صلاة الصبح، وقيل بعد التسليمة الأولى، وقيل الثانية.

وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعامر بن فهيرة رضي الله تعالى عنهم. أي وعبد الله بن الأرقم، وكان يكتب الرسائل للملوك وغيرهم، قال عمر في حقه: ما رأيت أخشى لله منه.
وأبيّ بن كعب رضي الله تعالى عنه، وهو أول من كتب له من الأنصار بالمدينة، كان في أغلب أحواله يكتب الوحي، وهو أحد الفقهاء الذين كانوا يكتبون في عهده عليه الصلاة والسلام.
وثابت بن قيس بن شماس، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان أي وأخوه يزيد.
قال بعضهم: كان معاوية وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهما ملازمين للكتابة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوحي وغيره، لا عمل لهما غير ذلك.
قال زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلم بالسريانية، قال: إني لا آمن يهود على كتابي، فما مر بي نصف شهر حتى تعلمت وحذقت فيه فكنت أكتب له إليهم وأقرأ له كتبهم.
والمغيرة بن شعبة، والزبير بن العوام، وخالد بن الوليد، والعلاء بن الحضرمي وعمرو بن العاص، وعبد الله بن رواحة، أي ومحمد بن مسلمة، وعبد الله بن عبد الله بن أبيّ ابن سلول.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 422
باب يذكر فيه حراسه قبل أن ينزل عليه قوله تعالى: {والله يعصمك من الناس}
سعد بن معاذ حرسه ومسلم ليلة يوم بدر: أي الليلة التي صبيحتها ذلك اليوم. وفي ذلك اليوم لم يحرسه إلا أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه شاهراً سيفه حين نام بالعريش.
وفي كلام بعضهم أن سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه كان مع أبي بكر رضي الله عنه في العريش يحرسانه في بدر.
ومحمد بن مسلمة رضي الله تعالى عنه حرسه يوم أحد.
والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه حرسه يوم الخندق.
والمغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه حرسه يوم الحديبية.
وأبو أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه حرسه ليلة بنى بصفية ببعض طرق خيبر.

وبلال وسعد بن أبي وقاص وذكوان بن عبد قيس رضي الله عنهم حرسوه بوادي القرى.
أي وحرسه ابن أبي مرثد الغنوي في الليلة التي كانت في صبيحتها وقعة حنين حيث قال : «ألا رجل يحرسنا الليلة؟ فقال: أنا يا رسول الله فدعا له ، وبعد نزول الآية وهي: {والله يعصمك من الناس} ترك الحرس».
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 424
باب يذكر فيه من ولي السوق في زمنه
وتصديق هذه الولاية الآن بالحسبة ومتوليها بالمحتسب. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل سعد بن سعيد بن العاص بعد الفتح على سوق مكة. واستعمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على سوق المدينة.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 424
باب يذكر فيه من كان يضحكه
منهم نعيمان. كان إذا نظر إلى نعيمان لا يتمالك نفسه أن يضحك لأنه كان مزاحاً، وتقدم عنه. ويأتي أيضاً ما وقع بينه وبين سليط أو سويط.
ومنهم الذي كان يحده في الخمر، واسمه عبد الله، ويلقب بالخمار.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 425
باب يذكر فيه أمناء رسول الله
منهم عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه. كان أمين رسول الله صلى الله عليه وسلم على نسائه.
وكذا أبو أسد بن أسيد الساعدي، كان أمينه على نسائه. وهو آخر من مات من أهل بدر رضي الله تعالى عنهم. وكان ممن أبصر الملائكة يوم بدر وكف بصره.
وبلال المؤذن رضي الله تعالى عنه، كان أمينه على نفقاته.
ومعيقيب، كان أمينه على خاتمه الشريف.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 425
باب يذكر فيه شعراؤه
الذين كانوا يناضلون عنه بشعرهم ويهجون كفار قريش حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 425
باب يذكر فيه من كان يضرب الأعناق بين يديه

وهم علي كرم الله وجهه، والزبير، والمقداد، ومحمد بن مسلمة رضي الله عنهم، وعاصم بن ثابت، أي والضحاك بن سفيان رضي الله تعالى عنه.
ولعل المراد من كان يتكرر منه ذلك، فلا ينافي ما تقدم في قصة الحارث بن سويد أنه قال لعويمر بن ساعدة رضي الله تعالى عنه اضرب عنقه.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 426
باب يذكر فيه مؤذنوه
وهم بلال، وابن أم مكتوم رضي الله تعالى عنهما بالمدينة، وسعد القرظ مولى عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنهما بقباء، وقيل له القرظ لا تجاره فيه. ومن قال القرظي فقد أخطأ، وأبو محذورة رضي الله تعالى عنه بمكة: أي وأذن بين يديه زياد بن الحارث الصدائي كما تقدم.
وقد يقال: مراد الأصل من تكرار أذانه، فلا يرد هذا، وكذا لا يرد عبد العزيز بن الأصم فإنه أذن أيضاً بين يديه مرة واحدة.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 426
باب يذكر فيه العشرة المبشرون بالجنة رضي الله تعالى عنهم
وهم الخلفاء الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وقد نظم ذلك بعضهم في بيت، فقال:
لقد بشرت بعد النبي محمد
بجنة عدن زمرة سعداء
سعيد وسعد والزبير وعامر
وطلحة والزهري والخلفاء
أي وربما أسقط بعضهم أبا عبيدة عامر بن الجراح، وذكر بدله عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، وهو غريب جداً.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 426
باب يذكر فيه حواريوه
بالحاء المهملة: أي أنصاره الذين اشتهروا بهذا الوصف، وهم الخلفاء الأربعة، وحمزة وجعفر، وأبو عبيدة، وعثمان بن مظعون، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة والزبير، وهو أكثرهم شهرة بهذا الوصف بل هو المراد عند إطلاق حواري رسول الله .
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 427

باب يذكر فيه سلاحه
كان له من السيوف تسعة. ومن الدروع سبعة. ومن القسي ستة. ومن الأتراس ثلاثة. ومن الرماح اثنان. ومن الخَوذ اثنان.
فأما السيوف: فسيف يقال له مأثور بهمزة ساكنة ثم ثاء مثلثة. ورثه من أبيه، وقدم به المدينة، أي ويقال: إنه من عمل الجن. وسيف يقال له العضب أي القاطع، أرسل به إليه سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه عند توجهه إلى بدر. وسيف يقال له ذو الفقار، كان في وسطه مثل فقرات الظهر. غنمه يوم بدر، كان للعاص بي وائل قتل يوم بدر كافراً، وكانت قائمته وقبيعته، بفتح القاف وكسر الموحدة ثم مثناة تحتية ساكنة ثم عين مهملة مفتوحة، وحلقته بإسكان اللام وفتحها، وعلاقته بكسر العين، فضة، وكان لا يفارقه في حرب من الحروب. ويقال إن أصله من حديدة وجدت مدفونة عند الكعبة. وسيف يقال له الصمصامة بفتح الصاد المهملة وإسكان الميم، كان مشهوراً عند العرب، وهو سيف عمرو بن معد يكرب. أهداه لخالد بن سعيد بن العاص حيث استعمله على اليمن. وسيف يقال له القلعي بفتح اللام، نسبة إلى برج القلعة: موضع بالبادية. وسيف يقال له الحيف بفتح الحاء المهملة ثم مثناة تحت ساكنة: وهو الموت وهذه الثلاثة من سلاح بني قينقاع مثلث النون. وسيف يقال له الرسوب بفتح الراء وضم السين المهملة ثم واو ساكنة ثم موحدة: أي يرسب ويستقر في الضربة، وهو أحد السيوف التسعة التي أهدتها بلقيس لسليمان عليه الصلاة والسلام. وسيف يقال له المحدم بكسر الميم، ثم حاء ساكنة ثم ذال معجمة مفتوحة: القاطع وهما كانا معلقين على صنم طي الذي يقال له الغلس، وسيف يقال له القضيب، من قضب الشيء: قطعه، فعيل بمعنى فاعل: أي قاطع.

وأما الدروع، فدرع يقال لها ذات الفضول بضم الفاء وبالضاد المعجمة لطولها. أرسل بها إليه سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه حين سار إلى بدر، أي وكانت من حديد، وهي التي رهنها عند أبي الشحم اليهودي على ثلاثين صاعاً من الشعير، وكان الدين إلى سنة. ودرع يقال لها ذات الوشاح بكسر الواو وبالشين المعجمة مخففة وفي آخره حاء مهملة: ودرع يقال لها ذات الحواشي. ودرع يقال لها السفرية بالفاء، والسفر: موضع يصنع به الدروع. قال في النور: والذي أحفظه في هذه الدرع السغدية بضم السين المهملة وبالغين المعجمة الساكنة ثم دال مهملة مفتوحة. ودرع يقال لها الفضة، ويقال لها السعدية بالعين المهملة مفتوحة، وهما من دروع بني قينقاع، يقال إنها درع داود عليه الصلاة والسلام التي لبسها لقتال جالوت كما تقدم. ودرع يقال لها البتراء بفتح الموحدة، ثم مثناة فوق ساكنة ممدودة، قيل لها ذلك لقصرها. ودرع يقال لها الخرنق بالخاء المعجمة مكسورة، ثم راء ساكنة ثم نون مكسورة ثم قاف، قيل لها ذلك لنعومتها.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 427
وأما القسي، فقوس يقال لها البيضاء من شوحط، وهو من شجر الجبال، يتخذ منه القسي، وهو من سلاح بني قينقاع. وقوس يقال لها الروحاء. وقوس يقال لها الصفراء من نبع وهو شجر يتخذ منه القسي. ومن أغصانه السهام كسرت يوم أحد. وقوس يقال لها الزوراء، ويقال لها الكتوم لانخفاض صوتها إذا رمي عنها، قيل وهي التي اندقت سيتها يوم أحد، أي وقوس يقال لها السداد.
وأما الأتراس، فترس يقال لها الزلوق، لأن السلاح يزلق عنه. وترس يقال لها فتق بضم الفاء وفتح التاء المثناة فوق وبالقاف. وترس يقال لها تمثال عقاب أو كبش، فوضع يده الشريفة عليه فذهب.

وأما الرماح، فرمح يقال له المثنى. ورمح يقال لها المثوي بضم الميم وإسكان الثاء المثلثة وكسر الواو، من الثوي: وهو الإقامة، لأن المطعون به يقيم موضعه ولا ينتقل. أي وثلاث رماح أصابها من سلاح بني قينقاع، يقال لأحدها المثنى بضم الميم وإسكان الثاء المثلثة ثم نون مفتوحة. وفي الأصل المنثي بتقديم النون على الثاء.
وأما الحراب، فحربة يقال لها النبعة. وحربة يقال لها البيضاء. وحربة صغيرة تشبه العكاز يقال لها العنزة قال: جاء بها الزبير رضي الله تعالى عنه من أرض الحبشة، أعطاها له النجاشي رحمه الله، وقاتل بها بين يدي النجاشي عدوا للنجاشي، وظهر النجاشي على ذلك العدو، وشهد بها الزبير رضي الله تعالى عنه بدراً وأحداً وخيبر، ثم أخذها منه منصرفه من خيبر، فكانت تحمل بين يديه يوم العيد، يحملها بلال رضي الله تعالى عنه، فتركز بين يديه ويصلي إليها، وكذا كان يصلي إليها في أسفاره، أي وكان يمشي بها وهي في يده. ورابعة يقال لها المهر. وخامسة يقال لها النمر، وكان له محجن طوله قدر ذراع أو أكثر بيسير، يمشي به، ويعلق بين يديه على بعيره يسمى الذقن، وكان له رأس معقفة كالصولجان.
وكان له قضيب من شوحط يسمى الممشوق، قيل وهذا القضيب هو الذي كانت تتداوله الخلفاء ا هـ.
أي وكان له مخصرة بكسر الميم وإسكان الخاء المعجمة وفتح الصاد: وهي ما يمسكه بيده من عصا أو مقرعة تسمى العرجون، ويقال لها العسيب.
وأما الخود جمع خودة: وهي ما يجعل على الرأس من الزرد مثل القلنسوة: فخودة يقال لها الموشح بالميم وبالشين المعجمة مشددة مفتوحة والحاء المهملة. وخودة يقال لها السبوغ بالسين المهملة وبالغين المعجمة أو ذات السبوغ.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 427
باب يذكر فيه خيله وبغاله وحمره
كان له سبعة أفراس. وكان له بغال ست وكان له من الحمر اثنان. وكان له من الإبل المعدّة للركوب ثلاثة.

فأما أفراسه ، ففرس يقال له السكب: شبه بسكب الماء وانصبابه، لشدة جريه، وهي أول فرس ملكه ، اشتراه من أعرابي بعشرة أواق، وكان اسمه عند الأعرابي الضرس: أي بفتح الضاد وكسر الراء وبالسين المهملة: الصعب السيىء الخلق، وكان أغر: أي له غرة، وهي بياض في وجهه، محجلاً طلق اليمين، كميتاً: أي بين السواد والحمرة. وقال ابن الأثير كان أسود أدهم، وفرس يقال له المرتجز: أي سمي به لحسن صهيله، مأخوذ من الرجز الذي هو ضرب من الشعر، وكان أبيض، وهو الذي شهد له فيه خزيمة بأنه اشتراه من صاحبه بعد أن أنكر بيعه له، وقال له ائت بمن يشهد لك، فجعل شهادة خزيمة بشهادتين، بعد أن قال له : كيف شهدت ولم تحضر؟ فقال لتصديقي إياك يا رسول الله، وإن قولك كالمعاينة فقال له : أنت ذو الشهادتين، فسمي ذا الشهادتين، ثم قال: «من شهد له، خزيمة أو شهد عليه فهو حسيبه» لكن جاء أنه رد الفرس على الأعرابي وقال «لا بارك الله لك فيها» فأصبحت من الغد شائلة برجلها. وفرس يقال له اللحيف بالحاء المهملة واللام المضمومة فعيل بمعنى فاعل، لأنه كان يحلف الأرض بذنبه لطوله: أي يغطيها. وقيل لأنه كان يلتحف معرفته. وقيل هو بضم اللام مصغراً، وقيل بالخاء المعجمة مع فتح اللام وهو الأكثر. وهذا الفرس أهداه له فروة بن عمرو من أرض البلقاء بالشام. وفرس يقال له اللزاز، أي أهداه له المقوقس كما تقدم، مأخوذ من قولهم: لاززته: أي لاصقته، فكان يلحق بالمطلوب لسرعته، وقيل غير ذلك. وفرس يقال له الطرف أي بكسر الطاء المهملة وسكون الراء وبالفاء: الكريم الجيد من الخيل. وفرس يقال له الورد، وهو بين الكميت والأشقر، أهداه له تميم الداري رضي الله تعالى عنه، وأهداه لعمر رضي الله تعالى عنه. وفرس يقال له سبحة: أي بفتح السين وإسكان الموحدة وفتح الحاء المهملة: أي سريع الجري، هذا هو المشهور. وعدّ بعضهم في خيله غير ذلك، فأوصل جملتها إلى خمسة عشر بل إلى العشرين. وقد ذكر الحافظ

الدمياطي أسماء الخمسة عشر في سيرته وقال فيها: وقد ذكرناها وشرحناها في كتابنا كتاب الخيل.
وكان سرجه دفتين من ليف. قال: لم يكن شيء أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النساء من الخيل.
وجاء: «أنه مسح وجه فرسه ومنخريه وعينيه بكمّ قميصه فقيل له: يا رسول الله تمسح بكم قميصك؟ فقال إن جبريل عليه السلا عاتبني في الخيل». وفي رواية «في الفرس» أي في امتهانها. وفي رواية: «في سياستها» وقال: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وأهلها معانون عليها فخذوا بنواصيها، وادعوا بالبركة» ا هـ.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 429
أي وقد ذكر: «أنه في غزوة تبوك قام إلى فرسه الطرف فعلق عليه شعيره، وجعل يمسح ظهره بردائه، فقيل له: يا رسول الله تمسح ظهره بردائك؟ فقال: نعم، وما يدريك لعل جبريل عليه الصلاة والسلام أمرني بذلك؟».
وعن بعضهم قال: دخلت على تميم الداري رضي الله تعالى عنه وهو أمير بيت المقدس، فوجدته ينقي لفرسه شعيراً، فقلت: أيها الأمير ما كان لهذا غيرك؟ فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من نقى لفرسه شعيراً ثم جاء به حتى يعلقه عليه كتب الله له بكل شعيرة حسنة» وكان يضمر الخيل للسباق، فيأمر بإضمارها بالحشيش اليابس شيئاً بعد شيء، ويأمر بسقيها غدوة وعشياً، ويأمر أن يقودها كل يوم مرتين، ويؤخذ منها من الجري الشوط والشوطان.

وأما بغاله ، فبغلة شهباء يقال لها دلدل، أهداها له المقوقس كما تقدم. والدلدل في الأصل: القنفذ، وقيل ذكر القنافذ، وقيل عظيمها، وهذه أول بغلة ركبت في الإسلام. وفي لفظ: رؤيت في الإسلام، وكان يركبها في المدينة وفي الأسفار. وعاشت حتى ذهبت أسنانها، فكان يدق لها الشعير، وعميت. وقاتل عليها عليّ كرم الله وجهه الخوارج بعد أن ركبها عثمان رضي الله تعالى عنه، وركبها بعد عليّ ابنه الحسن ثم الحسين رضي الله تعالى عنهما، ثم محمد ابن الحنفية رحمه الله.
وسئل ابن الصلاح رحمه الله: هل كانت أنثى أو ذكراً والتاء للوحدة، فأجاب بالأول. قال بعضهم: وإجماع أهل الحديث على أنها كانت ذكراً، ورماها رجل بسهم فقتلها. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني إلى زوجته أم سلمة، فأتيته بصوف وليف، ثم فتلت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم لدلدل رسناً وعذاراً، ثم دخل البيت فأخرج عباءة فثناها ثم ربعها على ظهرها، ثم سمى وركب، ثم أردفني خلفه». وبغلة يقال لها فضة، أهداها له عمرو بن عمرو الجذامي كما تقدم. ووهبها لأبي بكر رضي الله تعالى عنه، أي وأوصلها بعضهم إلى سبعة.
وفي (مزيل الخفاء) وفي (سيرة مغلطاي): كان له من البغال دلدل وفضة، والتي أهداها له ابن العلماء: أي بفتح العين المهملة وإسكان اللام وبالمد في غزوة تبوك، والأيلية. وبغلة أهداها له كسرى، وأخرى من دومة الجندل، وأخرى من عند النجاشي هذا كلامه.
وعقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه كان صاحب بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقود به في الأسفار، وتوفي بمصر ودفن بقرافتها، وقبره معروف بها، وكان واليها قبل معاوية بعد عتبة بن أبي سفيان، ثم صرف عنها بمسلمة بن مخلد.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 429

وعن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال: قدت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته مدة من الليل، فقال أنخ، فأنخت فنزل عن راحلته، ثم قال: اركب فقلت: سبحان الله أعلى مركبك يا رسول الله وعلى راحلتك؟ فأمرني، فقال اركب، فقلت له مثل ذلك، ورددت ذلك مراراً حتى خفت أن أعصي رسول الله صلى الله عليه وسلم فركبت راحلته. ذكره في الإمتاع.
وأما حمره ، فحمار يقال له يعفور. وحمار يقال له عفير بالعين المهملة، وقيل بالمعجمة وغلط قائله وكان أشهب، ومات في حجة الوداع. والأول أهداه له فروة بن عمرو الجذامي، وقيل المقوقس. والثاني أهداه له المقوقس، وقيل فروة بن عمرو كذا في سيرة الحافظ الدمياطي رحمه الله، والعفرة هي الغبرة، أي وأوصل بعضهم حمره إلى أربعة.
وتقدم أن يعفوراً وجده في خيبر، وأنه يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم طرح نفسه في بئر جزعاً على رسول الله فمات، وتقدمت قصته وما فيها.
وأما إبله التي كان يركبها. فناقة يقال لها القصواء. وناقة يقال لها الجدعاء، وناقة يقال لها العضباء، وهي التي كانت لا تسبق فسبقت، فشق ذلك على المسلمين، فقال رسول الله : «إن حقاً على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه».
وفي رواية «إن الناس لم يرفعوا شيئاً من الدنيا إلا وضعه الله عز وجل» ويقال إن هذه العضباء لم تأكل بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تشرب حتى ماتت، وقيل إن التي كانت لا تسبق ثم سبقت هي القصواء، وكانت العضباء يسبق بها صاحبها الذي كانت عنده الحاجّ، ومن ثم قيل لها سابقة الحاج. وقيل إن هذه الثلاثة اسم لناقة واحدة وهو المفهوم من الأصل، وهو موافق في ذلك لابن الجوزي رحمه الله حيث قال إن القصواء هي العضباء وهي الجدعاء. وقيل القصواء واحدة والعضباء والجدعاء واحدة.
وفي كلام بعضهم: وأما البقر فلم ينقل أنه ملك شيئاً منها: أي للقنية فلا ينافي أنه ضحى عن نسائه بالبقر.

وأما غنمه ، فقيل مائة، وقيل سبعة أعنز كانت ترعاها أم أيمن رضي الله تعالى عنها، وجاء: «اتخذوا الغنم فإنها بركة» وكان له شياه يختص بشرب لبنها، وماتت له شاة، فقال: ما فعلتم بإهابها؟ قالوا إنها ميتة، قال دباغها طهورها. واقتنى الديك الأبيض، وكان يبيت معه في البيت وقال: «الديك الأبيض صديقي وصديق صديقي وعدو عدوي، والله يحرس دار صاحبه وعشراً عن يمينها، وعشراً عن يسارها، وعشراً من بين يديها، وعشراً من خلفها» وقد جاء: «اتخذوا الديك الأبيض فإن داراً فيها ديك أبيض لا يقربها شيطان ولا ساحر ولا الدويرات حولها، واتخذوا هذا الحمام المقاصيص في بيوتكم فإنها تلهي الجن عن صبيانكم».
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 429
وفي العرائس: «أن آدم قال يا رب شغلت بطلب الرزق لا أعرف ساعات التسبيح من أيام الدنيا فأهبط الله ديكاً وأسمعه أصوات الملائكة بالتسبيح، فهو أول داجن اتخذه آدم من الخلق، فكان الديك إذا سمع التسبيح ممن في السماء سبح في الأرض، فيسبح آدم بتسبيحه».
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 429
باب يذكر فيه صفته الظاهرة وإن شاركه فيها غيره
قال: قد خلق الله تعالى أجساد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام سليمة من العيب حتى صلحت لحلول الأنفس الكاملة، وهم في ذلك متفاوتون، ونبينا أصح الأنبياء مزاجاً، وأكملهم جسداً.
وعن أنس رضي الله عنه: «ما بعث الله نبياً إلا حسن الوجه، حسن الصوت، وكان نبيناً أحسنهم وجهاً وصوتاً» انتهى. وكانت صفاته الظاهرة لا تدرك حقائقها، وإلى هذا يشير صاحب الهمزية رحمه الله تعالى بقوله:
إنما مثلوا صفاتك للنا
س كما مثل النجوم الماء
وتقدم بعض صفته في خبر أم معبد رضي الله عنها.
ووصف بأنه كان ضخم الهامة: أي الرأس. ووصف بأنه كان فخماً مفخماً: أي عظيماً في الصدور والعيون، يتلألأ وجهه كالقمر ليلة البدر قال: كان في وجهه تدوير، ليس بالمطهم ولا المكلثم.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: ما رأيت أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنّ الشمس تجري في وجهه. وفي رواية: «تجري من وجهه» وعن ابن عباس رضي الله عنهما: لم يقم مع شمس قط إلا غلب ضوؤه ضوء الشمس، ولم يقم مع سراج قط إلا غلب ضوؤه ضوء السراج انتهى. أقصر من المشذب بضم الميم وفتح الشين الذال المعجمتين مشددة ثم موحدة على وزن معظم: البائن الطويل في نحافة. وأطول من المربوع. قال: وعن علي كرم الله وجهه: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطويل الممغط ولا بالقصير المتردد، وكان ربعة القوم، والممغط: المتناهي في الطول. والمتردد المجتمع الخلق: أي القصير جداً، لم يكن يماشيه أحد من الناس ينسب إلى الطول إلا طاله رسول الله ، فإذا فارقه رسول الله صلى الله عليه وسلم نسب للربعة: أي لا طويل ولا قصير، عظيم الهامة. أي وفي رواية: ضخم الرأس، رجل الشعر إذا انفرقت عقيصته، وفي لفظ عقيقته: وهي الشعر المعقوص فرق: أي إذا انفرقت من ذات نفسها فرقها: أي أبقاها مفروقة وإلا تركها معقوصة: أي تركها على حالها لم يفرقها، لم يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفره. قال: أي جعله وفرة.
وحاصل الأحاديث أن شعره وصف بأنه جمة، ووصف بأنه وفرة، ووصف بأنه لمة. وفسرت اللمة: بالشعر الذي ينزل على شحمة الأذن. والجمة بالذي ينزل على المنكبين. قال بعضهم: كان شعره يقصر ويطول بحسب الأوقات، فإذا غفل عن تقصيره وصل إلى منكبيه، وإذا قصره تارة ينزل عن شحمة أذنه وتارة لا ينزل عنها.
وجاء في وصف شعره : ليس بجعد قطط: أي بالغ في الجعودة، ولا رجل سبط: أي بالغ في السبوطة فلا ينافي ما جاء عن علي كرم الله وجهه: كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم سبطاً.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 434

وعن أم هانىء رضي الله عنها: كان له أربع غدائر: أي ضفائر، تخرج أذنه اليمنى من بين ضفيرتين، وأذنه اليسرى كذلك. قال ابن القيم رحمه الله: لم يحلق رأسه الشريف إلا أربع مرات انتهى. أزهر اللون: أي أبيض مشرب بحمرة: أي وهي المراد بالسمرة، وفي رواية: كان أسمر، ومن ثم جاء في رواية: كان بياضه إلى سمرة، لأن العرب قد تطلق على من كان كذلك أي بياضه إلى حمرة أسمر، ومن ثم جاء: ليس بالأبيض الأمهق: أي شديد البياض الذي لا يخالطه حمرة كلون الجص.
وعن علي كرم الله وجهه: ليس أبيض شديد الوضَح. وفي رواية: شديد البياض، ولا معارضة لأنه محمول على ما كان من جسده تحت الثياب، ومن ثم جاء: أنور المتجرد: وهو ما كشف عنه الثوب من البدن.

وقيل المراد بالأمهق الأخضر، فقد قيل إن المهق خضرة الماء، ولا بالآدم: أي شديد الأدمة. واسع الجبين، أي وفي رواية مفاض الجبين: أي واسعه. وفي رواية كان جبين رسول الله صلى الله عليه وسلم صلتاً: أي أملس. وفي رواية: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلى الجبين كأنه السراج المتوقد يتلألأ، أزج الحاجبين، سوابغ من غير قرن: أي بين حاجبيه فرجة، وهو البلج، أي والقرن بالتحريك: اتصال شعر الحاجبين. وورد: مقرون الحاجبين: أي شعرهما متصل بالآخر، لا حاجز بينهما. ولا منافاة لأن ذلك لا يجوز أن يكون بحسب الرائي، لأن الفرجة التي كانت بين حاجبيه يسيرة لا تبين إلا لمن دقق النظر. بينهما عرق يدره الغضب: أي إذا غضب امتلأ ذلك العرق دماً فيظهر ويرتفع. أقنى العرنين: أي سائله مرتفع وسطه: أي وفي وسطه احديداب. وفي رواية: دقيق العرنين، له نور يعلوه، يحسبه من لم يتأمله أشم: أي مرتفعاً. أدعج العينين أي شديد سواد العينين. وفي كلام بعضهم: الدعج سواد العين، ويقابله الأشهل وهو من في سواد عينيه حمرة. وقد جاء: أشهل العينين، وأشكل العينين: أي في بياض عينيه حمرة. وكانت في الكتب القديمة من علامات نبوته كما تقدم، أي وفي رواية: أنجل العينين: أي واسعهما. أهدب الأشفار: أي طويل هدب شعر العينين.
أي وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أكحل العينين. والكحل: سواد هدب العين خلقة.
وعن جابر رضي الله عنه: إذا نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت أكحل: أي في عينيه كحل وليس بالكحل. سهل الخدّين أي وفي رواية أسيل الخدّين: أي ليس في خديه نتوء وارتفاع، ضليع الفم: أي واسعه. أشنب: أي في ريقه برد وعذوبة. مفلج الأسنان: أي مفرّق ما بين الثنايا كما في رواية: أفلج الثنيتين، لأن الفلج تباعد ما بين الثنايا والرباعيات. وفي رواية: برّاق الثنايا. كان إذا تكلم رؤي كالنور يخرج من بين ثناياه، يفتر عن مثل حب الغمام: أي إذا ضحك بانت أسنانه كالبرد.

رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 434
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: حسن الثغر. وعن أنس رضي الله عنه: شممت العطر كله فلم أشم نكهة أطيت من نكهته . كث اللحية: أي كثير شعرها. وفي رواية: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيف اللحية، وكان يسرحها بالماء، وكان له مشط من العاج وهو الدبل. وقيل شيء يتخذ من ظهر السلحفاة البحرية، ويقال لعظم الفيل عاج أيضاً: أي وليس مراداً هنا أي وكان له مقراض: أي مقص يقص به أطراف شاربه.
وفي المشكاة عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يأخذ من شاربه فليس منا».
أي وكان يأخذ بالمقراض من عرض لحيته وطولها.
وقد لا ينافي ذلك ما جاء: «أمرني ربي بإعفاء لحيتي وقص شاربي» وقال: «من الفطرة قص الأظفار والشارب، وحلق العانة».
وكان يكثر دهن رأسه حتى كأن ثيابه ثياب زيات أو دهان. أي وفي لفظ: كان رسول الله يكثر التقنع حتى يرى حاشية ثوبه كأنه ثوب زيات أو دهان وليس في شعر رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء.
وعن أنس رضي الله عنه أن شيب لحيته كان في عنفقته وصدغيه متفرقاً. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: عرف من مجموع الروايات أن الذي شاب في عنفقته أكثر مما شاب في غيرها.
وقال : «شيبتني هود وأخواتها، فقال له أبو بكر رضي الله عنه: ما أخواتها يا رسول الله؟ قال: الواقعة، والقارعة، وسأل سائل، وإذا الشمس كورت، واقتربت الساعة».
وفي رواية: «شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعمّ يتساءلون، وإذا الشمس كوّرت، واقتربت الساعة» وقال : «من شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة» ولعل شيبه لم يخضب. وقيل كان يخضب بالحناء والكتم.

وقال: «أحسن ما غيرتم به الشيب الحناء والكتم» ونهى عن الخضاب بالسواد وقد تقدم. ضليع الفم: أي واسعه وهو مما تمدح به العرب، وتذم بصغر الفم، غاض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جلّ نظره الملاحظة، دقيق المسربة بفتح الميم وإسكان السين ثم راء مضمومة: وهو الخيط الشعر الذي بين الصدر والسرة، كأن عنقه جيد دمية: هي صورة تتخذ من العاج في صفاء الفضة.
أي وعن علي كرم الله وجهه: كأن عنقه إبريق فضة، معتدل الخلق بادناً متماسكاً: أي ذو لحم متماسك يمسك بعضه بعضاً، ليس مسترخي اللحم سواء البطن والصدر: أي مستويهما عريض الصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس: وهي رؤوس العظام: أي ملتقى كل عظمين كالمرفقين والمنكبين والركبتين. موصول ما بين اللبة بفتح اللام وتشديد الموحدة المفتوحة: هو المنحر والسرة بشعر يجري كالخيط، وهو المعبر عنه فيما سبق بدقيق المسربة عاري الثديين والبطن وما سوى ذلك. أشعر الذراعين والمناكب. وأعالي الصدر، طويل الزندين: أي عظيم الذراعين، رحب الراحة: أي واسعها.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 434
قال أنس رضي الله تعالى عنه: ما مسست حريراً ولا ديباجاً ألين من كف رسول الله ، سائل الأصابع أي طويلها شئن الكفين والقدمين: أي يميلان إلى الغلظ، وذلك ممدوح في الرجال مذموم في النساء. أي وكانت سبابة يديه أطول من الوسطى. قال ابن دحية رحمه الله: وهذا باطل بيقين، ولم يقله أحد من ثقات المسلمين: أي وإنما كان ذلك في أصابع قدميه ، وهو في ذلك كغيره من الناس. وفي رواية منهوس بالمهملة والمعجمة العقب: أي قليل لحم القدمين. سبط العظام: أي ممتدها لا نتوء فيها.

وفي رواية سبط العصب وهو كل عظم فيه مخ خمصان الأخصمين، ينبو عنهما الماء: أي يتجافى أخمص القدم وهو وسطه: أي شديد التجافي عن الأرض. مسيح القدمين: أي أملسهما، وهذا يوافق ما جاء في رواية: إذا وطىء بقدمه وطىء بكلها ليس له أخمص، إذا زال زال: تقلعاً: أي يرفع رجله بقوة ويخطو تكفياً: أي يتمايل إلى قدامه. وقيل يميناً وشمالاً كالمختال، ولا يذم إلا من تكلفه لا من كان ذلك جبلة له. ويمشي هوناً: أي برفق ووقار دون عجلة. ذريع المشية: أي واسعها إذا امشى كأنما ينحط من صبب. أي وذكر في (سفر السعادة) أن هذه المشية مشية أصحاب الهمم العلية ومن قبله حي، وإن هذا النوع من المشي يسمى مشي الهوينا المذكور في قوله تعالى: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً} وهو أعدل أنواع المشي، لأن الماشي إما متهاون بالمشي كالخشبة، أو طائش ينزعج وهذان النوعان في غاية القبح، لأن الأول يدل على الخمول وموت القلب. والثاني يدل على خفة الدماغ وقلة العقل ثم قال: وأنواع المشي عشرة هذه الثلاثة منها، وذكر باقيها.
وكان إذا التفت التفت جميعاً أي بسائر جسده، ولا يلوي عنقه كما يفعله أهل الخفة والطيش، يفتح الكلام ويختمه بأشداقه.
لا يقال: قد ذم المتشدقين. لأنا نقول: المراد بهم من يكثر الكلام من غير احتياط ولا احتراز ومن يلوي أشداقه استهزاء بالناس.
وكان يتكلم بجوامع الكلم: أي بالكلام القليل الألفاظ الكثير المعاني. فصلاً لا فضول فيه ولا تقصير، قال : «أعطيت جوامع الكلم»، واختصر لي الكلام اختصاراً.

قال: ومن تلك الكلمات «لا خير في صحبة من لا يرى لك مثل ما ترى له. ما هلك امرؤ عرف قدر نفسه. رحم الله عبداً قال خيراً فنعم أو سكت فسلم. ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيهاً. خير الأمور أوساطها. السعيد من وعظ بغيره». إذا أشار بكفه كلها ا هـ وإذا تعجب قلبها وإذا تحدث قارب يده اليمنى من اليسرى فضرب بإبهام اليمنى راحة اليسرى، أي وربما يسبح عند التعجب وربما حرك برأسه وعض شفته، وربما ضرب بيده على فخذه، وربما نكت الأرض بعود. وإذا غضب أعرض بوجهه.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 434
أي وكان إذا غضب احمر وجهه الشريف، وكان إذا اشتد وجده أكثر من مس لحيته. وفي رواية: إذا اشتد غمه مسح بيده على رأسه ولحيته وتنفس الصعداء أي تنفس طويلاً وقال: حسبي الله ونعم الوكيل، جلّ: أي معظم ضحكه التبسم، وكون معظم ضحكه ذلك لا ينافي أنه ضحك غير ما مرة حتى بدت نواجذه.
وكان إذا جرى به الضحك وضع يده على فيه، قال: وكان أكثر أحواله يمشي منتعلاً، وربما مشى حافياً.
وكان لا يأكل من هدية أهديت إليه حتى يأكل منها صاحبها: أي بعد أن أهديت إليه الشاة المسمومة.
وكان يأكل بثلاث أصابع ويلعقهن إذا فرغ يلعق الوسطى، ثم التي يليها ثم الإبهام، وقال: «إن لعق الأصابع بركة».
وكان يأمر أصحابه بلعق الصحفة ويقول: «إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة» ا هـ.
ونحن نوضح بعض هذه الصفات الظاهرة بعبارة واضحة قريبة للأفهام فنقول:
كان عظيماً معظماً في الصدور والعيون كبير الرأس، لأن كبر الرأس يدل على كثرة العقل غالباً، ووجهه كالقمر ليلة البدر، لون جسده الذي ليس تحت الثياب أبيض مشرب بحمرة، طويل الحاجبين مع دقة ما بينهما خال ما الشعر وهو البلج، وضده القرن، وهو أن يتصل شعر أحدهما بالآخر.
بين حاجبيه عرق إذا غضب انتفخ، طويل الأنف مع حدب في وسطه ودقة في طرفه ليس في حدبة ارتفاع لأن العرب تذم به.

في عينيه شكلة: وهي بياض وحمرة، شديد سواد العين مع اتساعها، واسع الفم، لأن سعة الفم تدل على الفصاحة. بين ثناياه والرباعيات فرجة، ويقال له الفلج. كثير شعر اللحية، شيبه قليل، عنقه كالإبريق الفضة. إذا مشى مال إلى أمامه.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 434
باب يذكر فيه صفته الباطنة وإن شاركه فيها غيره
كان سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب، ولا فحاش، ولا عياب ولا مزاح: أي كثير المزاح، فلا ينافي ما روي: كان يمازح أصحابه قال: وقد جاء «إني لأمزح ولا أقول إلا حقاً» لكن جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مزاحاً. وكان يقول: إن الله تعالى لا يؤاخذ المزّاح الصادق في مزاحه.
وجاء عن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم: ما رأيت أحداً أكثر مزاحاً من رسول الله .
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كانت في النبي صلى الله عليه وسلم دعابة. وعن بعض السلف: كان للنبي مهابة، فكان يبسط الناس بالدعابة. قال لعمته صفية لا تدخل الجنة عجوز فبكت، فقال لها وهو يضحك: الله تعالى يقول: {إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكاراً عرباً أتراباً} وهن العجائز الرمص: أي والعروب المتحببة لزوجها التي تقول وتفعل ما تهيج به شهوته إياها، وأتراباً: كأنهن ولدن في يوم واحد لأنهن يكن بنات ثلاث وثلاثين سنة.
وجاءه رجل وطلب أن يحمله على بعير فقال له: إني حاملك على ولد الناقة، فقال: يا رسول الله ما أصنع بولد الناقة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهل تلد الإبل إلا النوق؟.
وقد أتى أزيهر، وفي لفظ زاهر وكان يهدي للنبي الهدية من البادية، فكان كلما قدم من البادية يأتي معه بطرف وهدية لرسول الله ، فيجهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج.

وكان يقول: زاهر باديتنا ونحن حاضروه. وفي لفظ: لكل حاضر بادية، وبادية آل محمد زاهر، وكان يحبه. جاءه يوماً وهو يبيع متاعه في السوق وكان رجلاً دميماً، فاحتضنه من خلفه، فقال أرسلني، من هذا؟ فلما عرف أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم صار يمكن ظهره من صدره الشريف عليه الصلاة والسلام، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من يشتري العبد؟ فقال: يا رسول الله تجدني كاسداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولكن عند الله لست بكاسد أو قال: أنت عند الله غال. ويجوز أن يكون جمع بين هذين اللفظين، وكل روى ما سمع منهما.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم، فقال للناس: تقدموا فتقدموا، ثم قال لي تعالي حتى أسابقك، فسابقته فسبقته، فسكت حتى إذا حملت اللحم، وكنا في سفرة أخرى، قال للناس تقدموا فتقدموا ثم قال لي: تعالي حتى أسابقك فسابقته فسبقني، فجعل يضحك ويقول: هذه بتلك.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 440
وعن أنس رضي الله عنه قال: دخل على أمي فوجد أخي أبا عمير حزيناً، فقال: يا أم سليم، ما بال أبي عمير حزيناً؟ فقالت: يا رسول الله مات نغيره: تعني طيراً كان يلعب به، فقال : أبا عمير ما فعل النغير: وكان كلما رآه قال له ذلك.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بحريرة طبختها فقلت لسودة والنبي صلى الله عليه وسلم بيني وبينها كلي فأبت، فقلت لها: كلي كلي، أو لألطخن وجهك فأبت، فوضعت يدي فيها فطليت وجهها، فضحك وأرخى فخذه لسودة، وقال: الطخي وجهها فلطخت وجهي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم أي وقال يوماً لعائشة: ما أكثر بياض عينك انتهى.

وكان يتغافل عما لا يشتهي، قد ترك نفسه من ثلاث: الرياء، والأكبار، وما لا يعنيه. وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحداً، ولا يعيره، ولا يطلب عورته، وكان يقابل السيئة بالحسنة، ولا يذم ذواقاً ولا يمدحه. والذواق الشيء، يقال ما ذقت ذواقاً: أي شيئاً من طعام أو شراب.
وعن عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما عن رجل من العرب. قال: زحمت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وفي رجلي نعل كثيفة، فوطئت بها على رجل رسول الله ، فبعجني بعجة بسوط في يده، وقال: بسم الله أوجعتني، قال: فبت لنفسي لائماً، أقول أوجعت رسول الله ، فلما أصبحنا إذا رجل يقول أين فلان، فانطلقت وأنا متخوف، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك وطئت بنعلك على رجلي بالأمس فأوجعتني فبعجتك بالسوط فهذه ثمانون نعجة فخذها بها، ولما نزل قوله تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} قال له جبريل عليه السلام، أي بعد أن سأله في ذلك: إن ربك عز وجل يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك.
وفي الحديث: «لا ينال عبد صريح الإيمان حتى يكون كذلك» وفي الحديث إن ذلك أفضل أهل الدنيا والآخرة.
وكان لا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق والمسألة، لا يقطع على أحد حديثه، ولا يتكلم في غير حاجة، يعظم النعمة وإن دقت، لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها. وإنما يغضب إذا تعرض للحق بشيء وعند غضبه لذلك لا يثنيه شيء عن الانتصار له، ويكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، ويتفقد أصحابه ويسأل عنهم، فإن كان غائباً دعا له، وإن كان شاهداً زاره، وإن كان مريضاً عاده، ويسأل الناس عما الناس فيه، أفضل الناس عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة، أحسنهم مواساة، لا يجلس، ولا يقوم إلا عن ذكر، وإذا انتهى إلى القوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك ويعطي كل واحد من جلسائه نصيبه حتى لا يحسب جليسه أحداً أكرم عليه منه.

رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 440
من جالسة أو نادمه لحاجة صابرة حتى يكون هو المنصرف عنه. من سأله حاجة لم يردّه إلاّ بها أو بميسور من القول.
عنده الناس في الحق سواء، مجلسه مجلس حلم وحياء: لا ترفع فيه الأصوات، ولا يتنازعون عنده الحديث.
إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير: أي على غاية من السكون والوقار لأن الطير لا تكاد تقع إلا على ساكن، وإذا تكلم عنده أحد أنصتوا له حتى يفرغ من حديثه: أي لا يقطع بعضهم على بعض حديثه، يضحك مما يضحكون، ويعجب مما يعجبون.
فقد ذكر أن أبا بكر رضي الله عنه خرج تاجراً إلى بصرى ومعه نعيمان بن عمرو الأنصاري وسويط بن حرملة وكلاهما بدري. وكان سويط على زاد أبي بكر فجاءه نعيمان وقال له أطعمني، فقال: لا حتى يأتي أبو بكر وكان نعيمان رجلاً مضحاكاً مزاحاً فيه دعابة وله أخبار ظريفة في دعابته، فقال لسويط: لأغيظنك، فذهب إلى ناس، وفي رواية: فمروا بقوم، فقال لهم نعيمان: تشترون من عبداً لي؟ قالوا نعم. قال: إنه عبد له كلام وهو قائل لكم لست بعبده، أنا رجل حر، فإن كان إذا قال لكم هذه تركتموه فلا تشتروه ولا تفسدوا عليّ عبدي، قالوا لا بل نشتريه، ولا ننظر في قوله، فاشتروه منه بعشرة قلائص، فأقبل بها يسوقها، وأقبل بالقوم حتى عقلها، ثم قال: دونكم هو هذا، فجاء القوم له وقالوا له: قد اشتريناك، فقال: هو كاذب أنا رجل حر، وفي رواية أنهم وضعوا عمامته في عنقه، فقال لهم: إنه يتهزأ ولست بعبده، فقالوا له قد أخبرنا بخبرك، فطرحوا الحبل في عنقه وذهبوا به، ولم يسمعوا كلامه، فجاء أبو بكر رضي الله عنه، فأخبره خبره، فذهب هو وأصحابه وأتبعوا القوم، وأخبروهم أنه يمزح، وردوا عليهم القلائص، وردوا سليطاً منهم، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر، فضحك من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حولاً كاملاً، لأن سفر أبي بكر رضي الله عنه كان قبل وفاته بعام.

ووقع لنعيمان هذا أنه مر بمخرمة بن نوفل رضي الله عنه وقد كف بصره وهو يقول ألا رجل يقودني حتى أبول، فأخذ بيده نعيمان، فلما بلغ مؤخر المسجد قال له: ههنا فبال فصاح الناس به، فقال: من قادني؟ قيل نعيمان، فقال عليّ أن أضربه بعصاي هذه، فبلغ نعيمان فأتاه، فقال له: هل لك في نعيمان؟ قال نعم، قال: فقم فقام معه، فأتى به عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو إذ ذاك أمير المؤمنين وهو يصلي، فقال: دونك الرجل، فجمع يديه في العصا ثم ضربه، فقال الناس: أمير المؤمنين، فقال: من قادني؟ فقيل نعيمان، قال: لا أعود إلى نعيمان أبداً.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 440
وجاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل المسجد وأناخ راحلته بفنائه فقال بعض الصحابة لنعيمان: لو نحرتها فأكلناها؟ فإنا قد قرمنا إلى اللحم، ويغرم رسول الله صلى الله عليه وسلم حقها، فنحرها نعيمان، فخرج الأعرابي فرأى راحلته، فصاح: واعقراه يا محمد، فخرج النبي ، فقال: من فعل هذا؟ قالوا نعيمان، فأتبعه النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عنه، فوجده في دار ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب قد اختفى في خندق وجعل عليه الجريد، فأشار إليه رجل ورفع صوته: ما رأيته يا رسول الله وأشار بأصبعه حيث هو، فأخرجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تعفر وجهه بالتراب، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: الذين دلوك عليّ يا رسول الله هم الذين أمروني، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عن وجهه التراب ويضحك، ثم غرم ثمنها.

وكان رضي الله عنه إذا دخل المدينة طرفة اشتراها في ذمته، ثم جاء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: يا رسول الله هذه هدية، فإذا جاء صاحبها يطلب ثمنها جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: أعط هذا ثمن ما جئت به إليك، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو لم تهد ذلك لي؟ فيقول: يا رسول الله لم يكن عندي ثمنه، وأحببت أن يكون لك، فيضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمر لصاحبه بثمنه.
وكان دائم البشر ضحوك السن: أي أكثر أحواله ذلك حسبما رآه هذا المخبر، فلا ينافي أنه كان متواصل الأحزان، دائم الفكرة ليست له راحة، فإنه بحسب ما كان عند ذلك المخبر.
وفي كلام ابن القيم رحمه الله: قد صانه الله عن الحزن في الدنيا وأسبابها، ونهاه عن الحزن على الكفار، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فمن أين يأتيه الحزن، بل كان دائم البشر ضحوك السن، كذا قال.
وفي كلام الإمام أبي العباس بن تيمية رحمه الله: ليس المراد الحزن الذي هو الألم على فوات مطلوب أو حصول مكروه، فإن ذلك منهي عنه، وإنما المراد به الاهتمام واليقظة لما يستقبله من الأمور، وهذا مشترك بين القلب والعين.
وسئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه فقالت: خلقه القرآن: أي ما ذكره القرآن: {وإنك لعلى خلق عظيم} وإنه تأدب بآدابه وتخلق بمحاسنه.
وقد قال : «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال».

قال: وذكر في عوارف المعارف أن في قول عائشة رضي الله عنها خلقه القرآن سراً غامضاً، حيث عدلت إلى ذلك عن قولها كان متخلقاً بأخلاق الله ستراً للحال بلطف المقال استحياء من سبحات ذي الجلال ا هـ، أي فكان متضفاً بما فيه من الاجتهاد في طاعة الله والخضوع له، والانقياد لأمره والشدة على أعدائه، والتواضع لأوليائه، ومواساة عباده وإرادة الخير لهم، والحرص على كمالهم، والاحتمال لأذاهم، والقيام بمصالحهم وإرشادهم إلى ما يجمع لهم خيري الدنيا والآخرة مع التعفف عن أموالهم إلى غير ذلك من الأخلاق الفاضلة والصفات الكاملة التي اتصف بها وشرف وكرم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 440
وكان أشد الناس خشية وخوفاً من الله، أي ومن ثم كان يقول: «أنا أتقاكم ، وأخوفكم منه».
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فدخل معي في لحافي، ثم قال: ذريني أتعبد لربي، فقام فتوضأ ثم قام فصلى فبكى حتى سال دمعه على صدره، ثم ركع فبكى، ثم سجد فبكى ثم رفع رأسه فبكى، فلم يزل كذلك حتى جاءه بلال رضي الله عنه فآذنه بالصلاة، فقلت: يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً، ولم لا أفعل وقد أنزل الله تعالى عليّ في هذه الليلة: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} إلى قوله: {سبحانك فقنا عذاب النار}.
وكان يقول: «أواه من عذاب الله قبل أن لا ينفع أواه» أي وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أول من صنعت له النورة ودخل الحمام سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، فلما دخله وجد حره وغمه قال: أواه من عذاب الله، أواه أواه قبل أن لا يكون أواه».

أي وفي (سفر السعادة): لم يدخل الحمام أبداً، والحمام الموجودة الآن بمكة شرفها الله تعالى المشهورة بحمام النبي صلى الله عليه وسلم لعلها بنيت في موضع اغتسل فيه مرة، هذا كلامه.
وأرسل وصيفة فأبطأت عليه، فقال لها: لولا خوف القصاص لأوجعتك بهذا السواك. وما ضرب بيده الشريفة امرأة ولا خادماً من أهله.
قال: وعن خادمه أنس رضي الله عنه: ما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر فتوانيت عنه، أو ما صنعته فلامني، ولا لامني أحد من أهله إلا قال دعوه. وفي لفظ: خدمته في السفر والحضر عشر سنين والله ما قال لي في شيء صنعته لم صنعت هذا هكذا ولا لشيء لم أصنعه لم لم تصنع هذا هكذا؟ وهذا يدل على أنه رضي الله عنه خدمه أنس له عند قدومه المدينة، وتقدم أن في بعض الروايات ما يدل على أن ابتداء خدمة أنس له في فتح خيبر، وتقدم ما فيه.
ووصف في الكتب القديمة بأن حلمه يسبق غضبه، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً.
وقد تقدمت قصته مع اليهودي الذي طلب منه وفاء ما اقترض منه قبل حلول الأجل ونظيرها.
وعن عائشة رضي الله عنها أنه لم يكن فحاشاً. استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فلما رآه قال: بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة، فلما جلس تطلق النبي في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل قالت له عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه. فقال : يا عائشة متى عهدتني فحاشاً؟ إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 440
قال ابن بطال رحمه الله: إن هذا الرجل هو عيينة بن حصن، لأنه كان يقال له الأحمق المطاع، وهو إنما تطلق في وجهه تألفاً له ليسلم قومه، لأنه كان المطاع فيهم. وأما ذمه له فلأنه يعلم ما يقع منه بعد، فإنه ارتد في زمن الصديق رضي الله عنه وحارب ثم رجع وأسلم.

أي وقد قيل إن سبب نزول قوله تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا} الآية أن عيينة هذا قال للنبي ، وقد قال له أسلم قال: على أن تبني لي مقصورة في مسجدك هذا أكون أنا وقومي فيها وتكون أنت معي.
ومن تأمل سيرته مع أهله وأصحابه وغيرهم من الفقراء والأيتام والأرامل والضعفاء والمساكين علم أنه بلغ الغاية في التواضع ورقة القلب ولين الجانب.
وعن أنس رضي الله عنه: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة يوماً. فقلت: والله لا أذهب وفي نفسي أني أذهب، فخرجت على صبيان يلعبون في السوق، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض ثيابي من ورائي، فنظرت إليه وهو يضحك فقال: يا أنيس اذهب حيث أمرتك. فقلت نعم أنا أذهب يا رسول الله ا هـ.
وكان أحسن الناس خلقاً، وأرجح الناس حلماً، وأعظم الناس عفواً، وأسخى الناس كفاً.
وكان أجود بالخير من الريح المرسلة، وقال يوماً لأصحابه وقد اضطروه إلى شجرة فخطفت رداؤه الشريف فوقف، ثم قال: أعطوني ردائي، لو كان لي عدد هذه العضاه نعماً لقسمته بينكم.
وفي رواية: «لو أن لي مثل جبال تهامة ذهباً لقسمته بينكم ثم لا تجدوني كذوباً، ولا بخيلاً، ولا جباناً» كما تقدم.
وكان أشجع الناس قلباً، وأشد الناس بأساً وأشد الناس حياء. وكان أشد حياء من البنت البكر في خدرها أي بيتها وسترها، وكان إذا فرح، غض طرفه، وإذا أخذه العطاس وضع يده أو ثوبه على فيه وخفض صوته، وربما غطى وجهه بيده أو ثوبه.
وكان يحب الفأل الحسن، ويغير الاسم القبيح بالحسن كما تقدم، وربما غير الحسن بالقبيح كما تقدم. وكان يقول لأصحابه: إذا أرسلتم لي رسولاً فليكن حسن الاسم، حسن الوجه.
من ذلك أن شخصاً كان سادناً: أي خادماً الصنم، وكان يسمى غاوي بن ظالم. فبينما هو عند صنمه إذ أقبل ثعلبان إلى الصنم ورفع كل واحد منهما رجله وبال على رأس ذلك الصنم، فلما رأى ذلك كسر ذلك الصنم وأنشد:
أربُّ يبول الثعلبان برأسه
لقد ذل من بالت عليه الثعالب

وأتى رسول الله ، فقال له كيف اسمك؟ فقال: غاوي بن ظالم. فقال له: بل أنت راشد بن عبد ربه.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 440
ومن هذا السياق يعلم أن الثعلبان بفتح الثاء المثلثة مثنى ثعلب لا بضمها ذكر الثعالب كما قيل.
ومن تغيير الاسم القبيح بالحسن ما وقع له في غزوة ذي قرد أنه مر على ماء فسأل عنه، فقيل له: هذا اسمه بئسان وهو مالح. فقال: لا، بل اسمه نعمان وهو طيب، فانقلب عذباً. واشتراه طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه ثم تصدق به، فلما جاء إليه وأخبره بذلك قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنت يا طلحة إلا فياض فسمي طلحة الفياض.
وكان يشاور أصحابه في الأمر. قالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت رجلاً أكثر مشاورة للرجال من رسول الله .
وكان إذا حلف قال: لا ومقلب القلوب، وربما قال في يمينه وأستغفر الله، وإذا اجتهد في اليمين قال: لا، والذي نفس أبي القاسم بيده، وربما قال: والذي نفس محمد بيده، وربما قال في يمينه: لا، وأستغفر الله والذي نفسي بيده.
وكان أكثر الناس إغضاء عن العورات. وكان إذا كره شيئاً عرف في وجهه، ولم يشافه أحداً بمكروه حتى إذا بلغه عن أحد ما يكرهه لم يقل ما بال فلان يقول أو يفعل كذا. بل يقول: ما بال أقوام يقولون أو يفعلون كذا.
لا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح، أوسع الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشيرة. ما دعاه أحد من أصحابه أو أهل بيته إلا قال لبيك، يخالط أصحابه، ويحادثهم، ويداعب، أي يمازح صبيانهم، ويجلسهم في حجره الشريف.

أي فقد كان يصفّ أولاد عمه العباس عبد الله وعبيد الله وغيرهما رضي الله عنهم ويقول: من سبق إليّ فله كذا، فيستبقون إليه فيقعدون على صدره الشريف فيقبلهم ويلتزمهم. ويجيب دعوة الحر والعبد والأمة والمسكين، ويعود المرضى في أقصى المدينة، ويشهد الجنائز، ويقبل عذر المعتذر. ما وضع أحد فمه في أذنه إلا استمر صاغياً له حتى يفرغ من حديثه ويذهب، وما أخذ أحد بيده فيرسل يده منه حتى يكون الآخذ هو الذي يرسلها.
وكان يبدأ من لقيه بالسلام، ويبدأ أصحابه بالمصافحة، ولم ير قط ماداً رجليه بين أصحابه. يكرم من يدخل عليه، وربما بسط له رداءه وآثره بالوسادة التي تحته، ويعزم عليه بالجلوس عليها إن أبى، ويدعو أصحابه بأحب أسمائهم ويكنيهم، ولا يجلس إليه أحد وهو يصلي إلا خفف صلاته، وسأله عن حاجته، فإذا فرغ عاد إلى صلاته، وطعن في الحديث الذي ورد بذلك، وإذا سمع بكاء الصغير وهو يصلي تجوّز فيها: أي خففها.
أكثر الناس شفقة على خلق الله تعالى وأرأفهم بهم وأرحمهم بهم، قال تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} ومن ثم رغب إلى الله تعالى أن يجعل سبه ولعنه لأحد من المسلمين رحمة له: أي إذا كان لا يستحق ذلك السب في باطن الأمر ويستحقه في ظاهر الأمر. أي وقال : «من لا يرحم لا يرحم» أوصل الناس للرحم، وأقومهم بالوفاء وحسن العهد.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 440
وكان يقول: «إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد».
وكان يركب الحمار: أي وربما ركبه عرياناً ويردف خلفه. فعن أنس رضي الله عنه: رأيته يوماً على حمار خطامه ليف، أي وقد جاء أن ركوب الحمار براءة من الكبر، وكان يجلس على الأرض، وكان يشرب قائماً وقاعداً وينتعل قائماً وقاعداً، ويصلي منتعلاً وحافياً.

وفي لفظ: كان أكثر صلاته في نعليه وكان يحب التيامن في شأنه كله في طهوره وترجله وتنعله، وكان يحب السواك حتى لقد أحفى لثته. وكان يكتحل بالإثمد عند النوم ثلاثاً في كل عين. وفي لفظ: ثلاثاً في اليمنى ومرتين في اليسرى. وقال : «عليكم بالإثمد، فإنه يجلو البصر، وينبت الشعر، وإنه من خير أكحالكم» وكان يعود المساكين ويجلس بين أصحابه.
«وحج على رحل رث عليه قطيفة ما تساوي أربعة دراهم، وقال: اللهم اجعله حجاً مبروراً لا رياء فيه ولا سمعة» كما تقدم، وأهدى في حجة ذلك مائة بدنة كما تقدم.
وكان يفلي ثوبه، أي وإن كان من خصائصه أن القُمَّل لا يؤذيه، ويحلب شاته، ويخصف نعله، ويرقع ثوبه ويخدم نفسه، ويعلف ناضحه وهو الجمل الذي يسقي عليه الماء، ويقمّ البيت.
قال وعن عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل عمل البيت، وأكثر ما يعمل الخياطة، ما يرى فارغاً قط في بيته، إما يخصف نعلاً لرجل مسكين، أو يخيط ثوباً لأرملة انتهى، ويأكل مع الخادم، ويحمل بضاعته من السوق، ويحب الطيب، ويأمر به.
وكان يتطيب بالمسك والغالية، ويتبخر بالعود والعنبر والكافور، ويأمر أصحابه بالمشي أمامه. ويقول: «خلوا ظهري للملائكة» زاهداً في الدنيا. ما ترك درهماً ولا ديناراً.
توفي ودرعه مرهونة، وتقدم أنها ذات الفضول عند يهودي وتقدم أنه أبو الشحم على نفقة عياله، وتقدم أن ذلك كان ثلاثين صاعاً من شعير، وكان الأجل سنة.
وكان يقول: «اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً». ما شبع ثلاثة أيام تباعاً من خبز البر حتى فارق الدنيا. وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: لقد رأيت نبيكم وما يجد من الدقل ما يملأ بطنه.

وفي رواية: ما شبع يومين من خبز الشعير. أي ومعلوم أن ذلك إنما هو لتتأسى به أمته في الإعراض عن الدنيا. قالت عائشة رضي الله عنها: قال لي رسول الله : «إني عرض عليّ أن يجعل لي بطحاء مكة ذهباً، فقلت: لا يا رب، أجوع يوماً، وأشبع يوماً، فأما اليوم الذي أجوع فيه فأضرع إليك وأدعوك، وأما اليوم الذي أشبع فيه فأحمدك وأثني عليك».
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 440
قال : «مالي وللدنيا، إنما أنا في الدنيا كرجل سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة حتى مال الفيء فتركها ولم يرجع إليها».
وقال : «ما أبالي بما رددت به عني الجوع» ولم ينخل له دقيق الشعير. قال: وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: والذي بعث محمداً بالحق ما رأى منخلاً، ولا أكل خبزاً منخولاً منذ بعثه الله تعالى إلى أن قبض. فقيل لها: كيف كنتم تصنعون بالشعير؟ قالت: كنا نقول أف أف انتهى، أي فيطير ما طار، وما بقي عجناه: ولا خبز له مرقق. ولا أكل النقي من الخبز.
وعن أنس رضي الله عنه قال: جاءت فاطمة رضي الله عنها بكسرة خبز إلى النبي ، فقال: «ما هذه الكسرة يا فاطمة؟ قالت: قرص خبزته فلم تطب نفسي حتى أتيتك بهذه الكسرة، فقال : أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام» أي فإنه كان يبيت الليالي المتابعة طاوياً. ولا أكل على خوان قط، إنما كان يأكل على السفرة، وربما وضع طعامه على الأرض. أي وخطب يوماً فقال: والله ما أمسى في بيت محمد صاع من طعام وإنها لتسعة أبيات. قال الحسن: والله ما قالها استقلالاً لرزق الله، ولكن أراد أن تتأسى به أمته.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: كان يمر هلال ثم هلال لا يوقد في بيت من بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار لا لخبز ولا لطبخ، فقيل له: بأي شيء كانوا يعيشون يا أبا هريرة؟ فقال: بالأسودين الماء والتمر.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: والله لقد كان يأتي على آل محمد الليالي ما يجدون فيها عشاء.

وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: أهدى لنا أبو بكر شاة قالت إني لأقطعها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلمة البيت، فقال لها قائل: أما كان لكم سراج؟ فقالت: لو كان لنا ما نسرج به أكلناه.
وكان لا يجمع في بطنه بين طعامين، إن أكل لحماً لم يزد عليه، وإن أكل تمراً لم يزيد عليه، وإن أكل خبزاً لم يزد عليه، ولم يكن له إلا ثوب واحد من قطن، قصير الكمين، كمه إلى الرسغ، وطوقه مطلق من غير أزرار. أي وفي لفظ: كان قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم قطناً، قصير الطول، قصير الكمين، كمه إلى الرسغ.
وكان له جبة ضيقة الكمين، وكان له رداء طوله أربعة أذرع وعرضه ذراعان وشبر من نسج عمان.
وكان له بردة يمانية طولها ستة أذرع في عرض ثلاثة أذرع وشبر، كان يلبسهما في يوم الجمعة والعيدين ثم يطويان.
وكان له رداء أخضر طوله أربعة أذرع وعرضه ذراعان وشبر تداولته الخلفاء.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 440
وكان له عمامة تسمى السحاب، كساها علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فكان ربما طلع عليه علي كرم الله وجهه فيقول : أتاكم عليّ في السحاب، يعني عمامته التي وهبها له .
وكان إذا اعتم يرخي عمامته بين كتفيه، وكان يلبس القلنسوة اللاطئة: أي اللاصقة بالرأس، وذات الآذان كان يلبسها في الحروب، والقلانس الطول إنما حدثت في أيام الخليفة المنصور.
وكان يقول: «فرق بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس» أي فإنه كان يلبس القلانس تحت العمائم، ويلبس القلانس بغير عمائم ويلبس العمائم بغير قلانس.
وكان له عمامة سوداء دخل يوم فتح مكة لابسها. وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: «كان للنبي عمامة سوداء يلبسها في العيدين ويرخيها خلفه».

وجاء أن جبريل عليه السلام كانت عمامته يوم غرق فرعون سوداء. ومقدار عمامته الشريفة لم يثبت في حديث. قال بعض الحفاظ أنها كانت نحو العشرة أذرع أو فوقها بيسير، وكانت له خرقة إذا توضأ تمسح بها، هذا.
وفي (سفر السعادة): لم يكن ينشف أعضاءه بعد الوضوء بمنديل ولا منشفة، وإن أحضروا له شيئاً من ذلك أبعده. والحديث المروي عن عائشة رضي الله عنه: كانت له نشافة يتنشف بها بعد الوضوء. وحديث معاذ رضي الله عنه في معناه كلاهما ضعيف وقال: تنشيف الأعضاء من الوضوء لم يصح فيه حديث.
وكانت له ملحفة مورسة إذا أراد أن يدور على نسائه رشها بالماء أي لتظهر رائحتها. وكان يصبغ قميصه ورداءه وعمامته بالزعفران. أي وفي لفظ: كان يصبغ ثيابه كلها بالزعفران حتى العمامة.
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه قميص أصفر ورداء أصفر وعمامة صفراء.
وعن ابن أبي أوفي رضي الله تعالى عنه: كان أحب الصبغ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفرة. وقال الحافظ الدمياطي رحمه الله: ويعارض هذه الأحاديث ما روي في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزعفر، وفي لفظ: نهى عن أن يتزعفر الرجل.

أي وقد يقال: على تقدير صحة تلك الأحاديث فهي منسوخة، أو كان ذلك من خصوصياته . وقد صح أنه اشترى السراويل. واختلف هل لبسها؟ فقيل نعم، ففي الأوسط للطبراني ومسند أبي يعلى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: دخلت يوماً السوق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس إلى بزازين، فاشترى سُراويل بأربعة دراهم، وكان لأهل السوق وزّان، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أوزن وأرجح. وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السراويل فذهبت لأحمله عنه، فقال: «صاحب الشيء أحق بشيئه أن يحمله إلا أن يكون ضعيفاً يعجز عنه فيعينه أخوه المسلم. قلت يا رسول الله إنك لتلبس السراويل. قال: أجل في السفر والحضر، وبالليل وبالنهار، فإني أمرت بالستر، فلم أجد شيئاً أستر منه» ومخرجه هو وشيخه ضعيفان.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 440
وكان يقول: «اللهم توفني فقيراً ولا توفني غنياً، واحشرني في زمرة المساكين، وفي لفظ آخر «اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين، فإن أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة، أتتني الدنيا خضرة حلوة، ورفعت إليّ رأسها وتزينت لي، فقلت: إني لا أريدك، لا حاجة لي فيك. ولو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقي الكافر منها شربة ماء» انتهى.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: كان النبي صلى الله عليه وسلم يبيت هو وأهله الليالي المتتابعة طاوياً لا يجدون عشاء.

قال: وكان يقول: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، الفاقة أحب إليّ من اليسار» وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كنت أرثي له من الجوع، وأقول نفسي لك الفداء، لو تبلغت من الدنيا بقدر ما يقويك ويمنع عنك الجوع، فيقول: يا عائشة إن إخواني من أولي العزم من الرسل قد صبروا على ما هو أشد من هذا، فمضوا على حالهم، فتقدموا على ربهم، فأكرمهم وأجزل ثوابهم أخشى إن ترفعت في معيشتي أن يقصر بي دونهم، فأصبر أياماً يسيرة أحب إليّ من أن ينقص حظي غداً في الأخرى، وما من شيء أحب إليّ من اللحوق بإخواني».
قال: وقال : «يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولالآل محمد. يا عائشة إن الله لم يرض من أولي العزم من الرسل إلا بالصبر، وقال: {فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل} والله أصبرن جهدي ولا قوة إلا بالله» انتهى.
وكان يقول: «لا تطروني كما أطرت النصاري عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله» وكان على غاية من الإعراض عن الدنيا، وكان يصلي على الحصير وعلى الفروة المدبوغة، وربما نام على الحصير فأثرت في جسده الشريف.
وكان ينام على شيء أدم محشو ليفاً، فقيل له في ذلك؟ فقال: «ما لي وللدنيا؟».
وعن عائشة رضي الله عنها: «دخلت امرأة من الأنصار فرأت ذلك الأدم». وفي لفظ رأت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم عباءة مثنية فانطلقت فبعثت إليه بفراش حشوة صوف، فدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ فقلت: يا رسول الله فلانة الأنصارية دخلت عليّ فرأت فراشك فذهبت فبعثت هذا، فقال: رديه، فلم أرده وأعجبني أن يكون في بيتي حتى قال ذلك ثلاث مرات، فقال: والله يا عائشة لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة».
وعنها رضي الله عنها أنها كانت تفرش تلك العباءة مثنية طاقين، ففي بعض الليالي ربعتها، فنام عليها ثم قال: «يا عائشة ما لفراشي الليلة ليس كما يكون؟ قلت: يا رسول الله ربعتها، قال: فأعيديه كما كان».

رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 440
وكان إذا استجدّ ثوباً قال: «اللهم لك الحمد، أنت كسوتنيه، أسألك من خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له». وكان يقول لأصحابه كلهم رضي الله عنهم: «إذا لبس أحدكم ثوباً فليقل الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمل به في حياتي» قال: وكان أرجح الناس عقلاً: والعقل مائة جزء: تسعة وتسعون في النبي ، وجزء في سائر الناس.
وعن وهب بن منبه: قرأت في أحد وسبعين كتاباً أنه أرجح الناس وأفضلهم رأياً. وفي رواية: وجدت في جميعها أن الله تعالى لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انتهائها من العقل في جنب عقله إلا كحبة بين رمال الدنيا. ومما يتفرع على العقل اقتناء الفضائل، واجتناب الرذائل، وإصابة الرأي، وجودة الفطنة وحسن السياسة والتدبير، وقد بلغ من ذلك الغاية التي لم يبلغها بشر سواه.
ومما يكاد يقضي منه العجب حسن تدبيره للعرب الذين هم كالوحوش الشاردة، كيف ساسهم، واحتمل جفاهم، صبر على أذاهم إلى أن انقادوا إليه ، واجتمعوا عليه، واختاروه على أنفسهم، وقاتلوا دونه أهلهم وآباءهم وأبناءهم وهاجروا في رضاه أوطانهم انتهى، والله أعلم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 440
باب يذكر فيه مدة مرضه، وما وقع فيه، ووفاته التي هي مصيبة الأولين والآخرين من المسلمين

ذكر أنه خرج إلى البقيع من جوف الليل فاستغفر لهم. فعن أبي مويهية مولى رسول الله : «أن رسول الله ، قال له في جوف الليل، إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي، قال: فانطلقت معه فلما وقف بين أظهرهم، قال: السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، لو تعلمون ما نجاكم الله منه أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها والأخيرة شر من الأولى، قال: ثم أقبل عليّ، وقال: يا أبا مويهية هل علمت أني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، وخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي، فاخترت لقاء ربي والجنة» أي وفي رواية: «أن أبا مويهية قال له: بأبي أنت وأمي، فخذ مفاتيح خزائن الأرض والخلد فيها، ثم الجنة. قال لا، والله يا أبا مويهية لقد اخترت لقاء ربي والجنة، ثم رجع إلى أهله، فلما أصبح ابتدىء بوجعه من يومه ذلك ابتدأه الصداع» أي وفي رواية «ذهب بعد ذلك إلى قتلى أحد فصلى عليهم، فرجع معصوب الرأس، فكان ذلك بدء الوجع الذي مات فيه» وفي رواية: «رجع من جنازة بالبقيع».

قالت عائشة رضي الله عنها: «لما رجع من البقيع وجدني وأنا أجد صداعاً في رأسي وأنا أقول وارأساه، فقال : بل أنا وارأساه قال: لو كان ذلك وأنا حيّ فأستغفر لك وأدعو لك وأكفنك وأدفنك» وفي لفظ: «وما يضرك لو مت قبلي فقمت عليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك، فقلت: واثكلاه. والله: إنك لتحب موتي، فلو كان ذلك لظللت يومك معرساً ببعض أزواجك، قالت: فتبسم رسول الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أنا وارأساه، لقد هممت أن أرسل إلى أبيك وأخيك فأقص أمري وأعهد عهدي فلا يطمع في الدنيا طامع». وفي لفظ: «ثم قلت يأبى الله ويدفع المؤمنون، أو يدفع الله ويأبى المؤمنون» وفي رواية: «أنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: ادعي لي أباك أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتاباً فإني أخاف أن يتمنى متمنٍّ أو يقول قائل أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر» وفي رواية: «لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما ائتني بكتف أو لوح حتى أكتب لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه، فلما ذهب عبد الرحمن ليقوم، قال: أبى الله والمؤمنون أن يختلف عليك يا أبا بكر».
قال ابن كثير رحمه الله: وقد خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة بين فيها فضل الصديق رضي الله عنه من بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ولعل خطبته هذه كانت عوضاً عما أراد أن يكتبه في الكتاب.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 455
وفي رواية أنه اجتمع عنده رجال، فقال : هلموا أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، فقال بعضهم: أي وهو سيدنا عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه الوجع وعندكم القرآن، أي وإنما قال ذلك رضي الله عنه تخفيفاً على رسول الله ، فارتفعت أصواتهم، فأمرهم بالخروج من عنده.

وجاء أن العباس رضي الله عنه قال لعلي كرم الله وجهه: لا أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصح من مرضه هذا فإني أعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت، أي وفي رواية: خرج علي بن أبي طالب كرم الله وجهه من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مرضه الذي مات فيه، فقال الناس: يا أبا الحسن كيف أصبح رسول الله ؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئاً، فأخذ بيده عمه العباس رضي الله عنهما. وقال له: والله أنت بعد ثلاث عبد العصي، وإني لا أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجعه هذا بعد ثلاث إلا ميتاً، فإني رأيت في وجهه ما كنت أعرفه في وجوه بني عبد المطلب عند الموت، فاذهب بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسأله فيمن هذا الأمر؟ فإن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا كلمناه فأوصى بنا، فقال عليّ كرم الله وجهه: والله لا أسألها رسول الله . قالت عائشة رضي الله عنها: وصار يدور على نسائه فاشتدّ به المرض عند ميمونة رضي الله عنها، وقيل في بيت زينب رضي الله عنها، وقيل في بيت ريحانة رضي الله عنها، قالت عائشة رضي الله عنها: فدعا نساءه فاستأذنهن أن يمرض في بيتي فأذنّ له، وفي رواية: صار يقول وهو في بيت ميمونة أين أنا غداً أين أنا غداً؟ يريد يوم عائشة رضي الله عنها. وفي البخاري يقول: أين أنا اليوم أين أنا غداً؟ استبطاء ليوم عائشة رضي الله عنها، فأذن له أزواجه أن يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة.

وفي رواية عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى النساء في مرضه فاجتمعن، فقال: إني لا أستطيع أن أدور بينكن، فإن رأيتن أن تأذنّ لي فأكون في بيت عائشة فعلتن: فأذنّ له قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي بين رجلين من أهله معتمداً عليهما الفضل بن العباس ورجل آخر، وفي رواية بين عباس بن عبد المطلب وبين رجل آخر، وفي رواية بين أسامة ورجل آخر عاصباً رأسه الشريف تخط قدماه الأرض حتى دخل بيتي، قال ابن عباس رضي الله عنهما: الرجل الذي لم تمسه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، أي فإنه كان بينها وبين عليّ ما يقع بين الأحماء، وقد صرحت بذلك لما أرادت أن تتوجه من البصرة بعد انقضاء وقعة الجمل وخرج الناس ومن جملتهم علي كرم الله وجهه لتوديعها، حيث قالت: والله ما كان بيني وبين عليّ في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها فقال عليّ: أيها الناس صدقت والله وبرت، ما كان بيننا وبينها إلا ذلك، وإنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة، وقد تقدم ذلك.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 455

ثم غمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد به وجعه، فقال: هريقوا عليّ من سبع قرب من آبار شتى حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم، فأقعدناه في مخضب إناء من حجر ثم صببنا عليه الماء حتى طفق يقول: حسبكم حسبكم، وفي لفظ: حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن: أي وصب المياه المذكورة له دخل في دفع السم. أي فإنه صار يقول لعائشة: يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أسممته بخيبر، فهذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السم. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصباً رأسه الشريف حتى جلس على المنبر، ثم كان أول ما تكلم به أن صلى على أصحاب أحد، أي دعا لهم فأكثر الصلاة عليهم واستغفر لهم. ثم قال: إن عبداً من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده؟ فاختار ذلك العبد ما عند الله، ففهمها أبو بكر رضي الله تعالى عنه وعرف أن نفسه يريد. أي فبكى أبو بكر () فقال: نفديك بأنفسنا وأبنائنا. فقال: «على رسلك يا أبا بكر». أي وفي رواية قال: «يا أبا بكر لا تبك، أيها الناس إن أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر» وهذا حديث صحيح جاء عن بضعة عشر صحابياً، ولكثرة طرقه عدّ من المتواتر.
وفي أخرى: «إن أعظم الناس عليّ منا في صحبته وذات يده أبو بكر» وفي أخرى: «فإني لا أعلم امرأ أفضل عندي يداً في الصحابة من أبي بكر».

وعن عائشة رضي الله تعالى عنها. قالت: قال رسول الله : «ما من نبي يموت حتى يخير بين الدنيا والآخرة» أي وفي الحديث «حياتي خير لكم، ومماتي خير لكم تعرض عليّ أعمالكم، فإن رأيت شراً استغفرت لكم» أي وهذا بيان للثاني لاستغناء الأول عن البيان، ومعلوم أن خيراً وشراً هنا ليسا أفعل تفضيل الذي يوصل بمن حتى يلزم التناقض، بل المراد أن ذلك فضيلة، ثم قال : انظروا هذه الأبواب اللاصقة في المسجد، أي وفي لفظ: هذه الأبواب الشوارع في المسجد فسدوها إلا باب أبي بكر. أي وفي لفظ: إلا ما كان من باب أبي بكر، فإني وجدت عليه نوراً. وفي لفظ: «سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد إلا خوخة أبي بكر» فإن المراد بالأبواب الخوخ؟ «فإني لا أعلم أن أحداً كان أفضل في الصحبة عندي يداً منه» أي وفي لفظ: «أبو بكر صاحبي ومؤنسي في الغار، سدوا كل خوخة في المسجد غير خوخة أبي بكر» وفي لفظ: «لا تؤذوني في صاحبي ولولا أن الله سماه صاحباً لاتخذته خليلاً، ألا فسدوا كل خوخة إلا خوخة بن أبي قحافة» أي وجاء في الحديث: «لكل نبي خليل من أمته، وإن خليلي أبو بكر، وإن الله اتخذ صاحبكم خليلاً» وفي رواية «وإن خليلي عثمان بن عفان» وجاء «لكل نبي خليل، وخليلي سعد بن معاذ».
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 455

وفي أسباب النزول للثعالبي عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله : «إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، وإنه لم يكن نبي إلا وله خليل. ألا وإن خليلي أبو بكر» وفي رواية الجامع الصغير: «إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، وإن خليلي أبو بكر» وفي رواية الجامع الصغير «خليلي من هذه الأمة أويس القرني» ولعل هذا كان قبل أن يقول في مرض موته قبل موته بخمسة أيام «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً ولو كنت متخذاً من أمتي لاتخذت أبا بكر خليلاً، لكن خلة الإسلام أفضل». وفي رواية: «ولكن أخوة الإسلام ومودته» وفي رواية: «لكن أخي وصاحبي».
وجمع بأن الأول: أي إثبات الخلة لغير الله محمول على نوع منها ونفيها عن غير الله محمول على كمالها.
ثم لا يخفى أن قوله : «ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً» يدلّ على أن مقام الخلة أرقى من مقام المحبة، وأن المحبة والخلة ليسا سواء خلافاً لمن زعم ذلك.
أي ولا مانع أن يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل، فلا حاجة إلى ما تكلفه بعضهم مما يدل على أن مقام المحبة من مقام الخلة: أي الذي يدلّ عليه ما جاء: «ألا قائل قولاً غير هجر؟ إبراهيم خليل الله، وموسى صفي الله، وأنا حبيب الله، وأنا سيد ولد آدم يوم القيامة» وعند ذلك: أي إغلاق الأبواب، قال الناس: أغلق أبوابنا وترك باب خليله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد بلغني الذي قلتم في باب أبي بكر، وأني أرى على باب أبي بكر نوراً، وأرى على أبوابكم ظلمة، لقد قلتم كذبت، وقال أبو بكر صدقت، وأمسكتم الأموال وجاد لي بماله، وخذلتموني وواساني. أي ولعل قولهم وترك باب خليله لا ينافي ما تقدم من عدم اتخاذه خليلاً.

وروي أنه لما أمر بسد الأبواب إلا باب أبي بكر، قال عمر: يا رسول الله دعني أفتح كوة أنظر إليك حيث تخرج إلى الصلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، وقال العباس بن عبد المطلب: يا رسول الله ما بالك فتحت أبواب رجال في المسجد يعني أبا بكر وما بالك سددت أبوب رجال في المسجد؟ فقال: يا عباس ما فتحت عن أمري ولا سددت عن أمي. وفي لفظ: ما أنا سددتها، ولكن الله سدها.
وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بسد الأبواب إلا باب علي. قال الترمذي حديث غريب. وقال ابن الجوزي: هو موضوع وضعه الرافضة ليقابلوا به الحديث الصحيح في باب أبي بكر. وجمع بعضهم بأن قصة علي متقدمة على هذا الوقت، وأن الناس كان لكل بيت بابان باب يفتح وباب يفتح خارجه إلا بيت علي كرم الله وجهه، فإنه لم يكن له إلا باب من المسجد، وليس له باب من خارج، فأمر بسد الأبواب: أي التي تفتح للمسجد. أي بتضييقها وصيرورتها خوخاً إلا باب علي كرم الله وجهه، فإن علياً لم يكن له إلا باب واحد ليس له طريق غيره كما تقدم، فلم يأمر بجعله خوخة، ثم بعد ذلك أمر بسد الخوخ إلا خوخة أبي بكر رضي الله تعالى عنه.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 455
وقول بعضهم حتى خوخة علي كرم الله وجهه، فيه نظر لما علمت أن علياً كرم الله وجهه لم يكن له إلا باب واحد، فالباب في قصة أبي بكر رضي الله تعالى عنه ليس المراد به حقيقته بل الخوخة. وفي قصة علي كرم الله وجهه المراد به حقيقته.

أقول: ومما يدل على ما تقدم قصة علي كرم الله وجهه ما روي عنه قال: «أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر أن سد بابك، قال: سمعاً وطاعة فسد بابه، ثم أرسل إلى عمر، ثم أرسل إلى العباس بمثل ذلك ففعلا، وأمرت الناس ففعلوا، وامتنع حمزة، فقلت: يا رسول الله قد فعلوا إلا حمزة، فقال : قل لحمزة فليحول بابه، فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تحول بابك فحوله، وعند ذلك قالوا: يا رسول الله سددت أبوابنا كلها إلا باب علي، فقال: ما أنا سددت أبوابكم ولكن الله سدها» وفي رواية: «ما أنا سددت أبوابكم وفتحت باب عليّ ولكن الله فتح باب عليّ وسد أبوابكم».
وجاء أنه خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: أما بعد، فإني أمرت بسد هذه الأبواب غير باب علي، فقال فيكم قائلكم، وإني والله ما سددت شيئاً ولا فتحته، ولكني أمرت بشيء فاتبعته، إنما أنا عبد مأمور ما أمرت به فعلت {إن أتبع إلا ما يوحى إليّ} ومعلوم أن حمزة رضي الله تعالى عنه قتل يوم أحد، فقصة علي كرم الله وجهه متقدمة جداً على قصة أبي بكر رضي الله تعالى عنه.
وعلى كون المراد بسد الأبواب تضييقها وجعلها خوخاً يشكل ما جاء: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب كلها غير باب علي، فقال العباس: يا رسول الله قدر ما أدخل أنا وحدي وأخرج، قال: ما أمرت بشيء من ذلك، فسدها كلها غير باب علي» فعلى تقدير صحة ذلك يحتاج إلى الجواب عنه، وعلى هذا الجميع يلزم أن يكون باب علي كرم الله وجهه استمر مفتوحاً في المسجد مع خوخة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، لما علم أنه لم يكن لعلي باب آخر من غير المسجد.

وحينئذ قد توقف في قول بعضهم في سد الخوخ إلا خوخة أبي بكر إشارة إلى استحلاف أبي بكر لأنه يحتاج إلى المسجد كثيراً دون غيره، لكن في تاريخ ابن كثير رحمه الله: وهذا: أي سد جميع الأبواب الشارعة إلى المسجد إلا باب عليّ لا ينافي ما ثبت في صحيح البخاري من أمره في مرض الموت بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد إلا باب أبي بكر، لأن في حال حياته كانت فاطمة رضي الله تعالى عنها تحتاج إلى المرور من بيتها إلى بيت أبيها فأبقى باب عليّ كرم الله وجهه لذلك رفقاً بها، وأما بعد وفاته فزالت هذه العلة فاحتيج إلى فتح باب الصديق رضي الله تعالى عنه لأجل خروجه إلى المسجد ليصلي بالمسلمين، لأنه الخليفة بعده عليه الصلاة والسلام هذا كلامه. وهو يفيد أن باب علي كرم الله وجهه سد مع سد الخوخ ولم يبق إلا خوخة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وجعل لبيت علي كرم الله وجهه باب من الخارج.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 455
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: «يا علي لا يحل لأحد جنب مكث في المسجد غيري وغيرك».
وعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها: «أنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه حتى انتهى إلى صرحة المسجد، فنادى بأعلى صوته إنه لا يحلّ المسجد لجنب ولا لحائض إلا لمحمد وأزواجه وعليّ وفاطمة بنت محمد، ألا هل بينت لكم أن لا تضلوا» قال الحافظ ابن كثير: وهذا أي الثاني إسناده غريب وفيه ضعف هذا كلامه، والمراد المكث في المسجد لا المرور به والاستطراق منه فإن ذلك لكل أحد.

ثم رأيت الحافظ السيوطي رحمه الله أشار إلى ذلك، وذكر أن مثل علي كرم الله وجهه فيما ذكر ولداه الحسن والحسين حيث قال: وكذا علي بن أبي طالب والحسن والحسين اختصوا بجواز المكث في المسجد مع الجنابة والله أعلم، ثم قال : «يا معشر المهاجرين استوصوا بالأنصار خيراً إنهم كانوا عيبتي التي أويت إليهم، فأحسنوا إلى محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم، ثم نزل رسول الله ».
وروي أنه قال في خطبته هذه: «أيها الناس من أحس من نفسه شيئاً فليقم أدع الله له، فقام إليه رجل، فقال: يا رسول الله إني لمنافق، وإني لكذوب، وإني لنؤوم، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ويحك أيها الرجل، لقد سترك الله لو سترت على نفسك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن الخطاب فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، اللهم ارزقه صدقاً وإيماناً، وأذهب عنه النوم إذا شاء».
قال ابن كثير: في إسناده ومتنه غرابة شديدة. وأمر في مرضه أبا بكر أن يصلي بالناس، قال: وكانت تلك الصلاة صلاة العشاء، وقد أذن بلال، وقال ضعوا لي ماء في المخضب: أي وهو شبه الإجانة من نحاس، فاغتسل فيه، أي وهذا مع ما سبق يدل على أنه كان له مخضب من حجر ومخضب من نحاس.

ثم أراد أن يذهب فأغمي عليه ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ فقلنا: لا هم ينتظرونك، أي وعند ذلك قال ضعوا إلي ماء في المخضب، فاغتسل ثم أراد أن يذهب فأغمي عليه ثم أفاق، فقال أصلى الناس؟ قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله، قال: ضعوا لي ماء في المخضب فاغتسل، ثم أراد أن يذهب فأغمي عليه ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله، والناس ملمومة في المسجد ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة، فأرسل إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه بأن يصلي بالناس، فأتاه الرسول، فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس، فأتاه أبو بكر رضي الله تعالى عنه لعمر: يا عمر صل بالناس، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: أنت أحق بذلك.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 455
وفي رواية: «أن بلالاً رضي الله تعالى عنه دخل عليه فقال: الصلاة يا رسول الله، فقال : لا أستطيع الصلاة خارجاً، ومر عمر بن الخطاب فليصل، بالناس، فخرج بلال رضي الله تعالى عنه وهو يبكي، فقال له المسلمون: ما وراءك يا بلال؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع الصلاة خارجاً، فبكوا بكاء شديداً، وقال لعمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: ما كنت لأتقدم بين يدي أبي بكر أبداً، فأدخل على نبي الله فأخبره أن أبا بكر على الباب، فدخل عليه بلال رضي الله عنه تعالى فأخبره بذلك، فقال: نعم ما رأى، مر أبا بكر فليصل بالناس، فخرج إلى أبي بكر فأمره أن يصلي فصلى بالناس.

وفي رواية فقال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها فقلت: إن أبا بكر رجل أسيف: أي رقيق القلب إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فقال : مروا أبا بكر فليصل بالناس، فعاودته، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقلت لحفصة: قولي له إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء. فمر عمر فليصل بالناس ففعلت حفصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحفصة: مه إنكن صواحب يوسف عليه الصلاة والسلام». وفي لفظ: «إنكن لأنتن صواحب يوسف عليه الصلاة والسلام» فقالت حفصة رضي الله تعالى عنها لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيراً ومروا أبا بكر فليصل بالناس»: أي مثل صاحبة يوسف عليه الصلاة والسلام وهي زليخا أظهرت خلاف ما تبطن، وظهرت للنساء اللاتي جمعتهن أنها تريد إكرامهن بالضيافة، وإنما قصدها أن ينظرن لحسن يوسف عليه الصلاة والسلام فيعذرنها في حبه والنبي صلى الله عليه وسلم فهم عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها تظهر كراهة ذلك مع محبتها له باطناً هكذا يقتضيه ظاهر اللفظ.
والمنقول عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها إنما قصدت بذلك خوف أن يتشاءم الناس أبا بكر فيكرهونه حيث قام مقامه ، فقد جاء عنها رضي الله تعالى عنها أنها قالت: ما حملني على كثرة مراجعتي له إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلاً قام مقامه أبداً، ولا كنت أرى أنه يقوم أحد مقامه إلا تشاءم الناس منه.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 455

وفي رواية: «إن الأنصار رضي الله تعالى عنهم لما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يزداد وجعاً طافوا بالمسجد وأشفقوا من موته ، فدخل عليه الفضل رضي الله تعالى عنه فأخبره بذلك، ثم دخل عليه علي كرم الله وجهه فأخبره بذلك، ثم دخل عليه العباس رضي الله تعالى عنه فأخبره بذلك، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم متوكئاً على علي والفضل والعباس أمامه، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوب الرأس يخط برجليه حتى جلس على أسفل مرقاة من المنبر وثار الناس إليه، فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس بلغني أنكم تخافون من موت نبيكم، هل خلد نبي قبلي فيمن بعث إليه فأخلد فيكم؟ ألا وإني لاحق بربي وإنكم لاحقون به، فأوصيكم بالمهاجرين الأولين خيراً، وأوصى المهاجرين فيما بينهم بخير، فإن الله يقول: {والعصر إن الإنسان لفي خسر} السورة وإن الأمور تجري بإذن الله، ولا يحملكم استبطاء أمر على استعجاله، فإن الله عز وجل لا يعجل لعجلة أحد، ومن غالب الله غلبه، ومن خادع الله خدعه {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم} وأوصيكم بالأنصار خيراً، فإنهم الذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلكم أن تحسنوا إليهم، ألم يشاطروكم في الثمار؟ ألم يوسعوا لكم في الديار، ألم يؤثروكم على أنفسكم وبهم الخصاصة؟ ألا فمن ولي أن يحكم بين رجلين فليقبل من محسنهم، وليتجاوز عن مسيئهم، ألا ولا تستأثروا عليهم، ألا فإني فرطكم وأنتم لاحقوني بي، ألا وإن موعدكم الحوض، ألا فمن أحب أن يرده عليّ غداً فليكفف يده ولسانه إلا فيما ينبغي: أيها الناس إن الذنوب تغير النعم، فإذا بر الناس برتهم أئمتهم، وإذا فجر الناس عقواً أئمتهم» وفي الحديث: «حياتي خير لكم، ومماتي خير لكم».

وقد أشار إلى خيرية الموت بأنه فرط، فخير صفة لا أفعل تفضيل حتى يشكل بأنه يقتضي أن حياتي خير لكم من مماتي ومماتي خير لكم من حياتي كما مر، ثم لا زال أبو بكر رضي الله تعالى عنه يصلي بالناس سبع عشرة صلاة، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم مؤتماً به ركعة ثانية من صلاة الصبح، ثم قضى الركعة الثانية: أي أتى بها منفرداً.
وقال : «لم يقبض نبي حتى يؤمه رجل من قومه» أي وقد قال ذلك لما صلى خلف عبد الرحمن بن عوف كما تقدم في تبوك.
قال: وفي رواية عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد خفة.
أي وأبو بكر في الصلاة. فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر، فلما رآه أبو بكر رضي الله تعالى عنه ذهب ليتأخر فأومأ إليه أن لا يتأخر، وأمرهما فأجلساه إلى جنب أبي بكر عن يساره. وفي رواية عن يمينه، وأنه دفع في ظهر أبي بكر وقال: صل بالناس أي ومنعه من التأخر، فجعل أبو بكر رضي الله تعالى عنه يصلي قائماً كبقية الصحابة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قاعداً انتهى.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 455

وهذا صريح في أنه مقتدياً بأبي بكر رضي الله تعالى عنه. وحينئذ لا يحسن التفريع على ذلك بما جاء في لفظ: فكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يصلي وهو قائم بصلاة النبي . وفي لفظ: يأتم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر. وفي لفظ: يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يقتدون بصلاة أبي بكر، وهذا يدل على أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم صلوا خلف أبي بكر وأبو بكر يصلي خلف النبي ، وصار يسمع الصحابة التكبير، وقد بوب البخاري على ذلك: «باب من أسمع الناس تكبير الإمام»، وقال بعد ذلك «باب الرجل يأتم بالإمام ويأتم الناس بالمأموم» فإن منعه أبا بكر رضي الله تعالى عنه من التأخر مع صلاته على يسار أبي بكر أو على يمينه يدل على أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لم يقتد بالنبي صلى الله عليه وسلم بل استمر إماماً، إذ لا يجوز عندنا أن يقتدي أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم مع تقدم أبي بكر عليه في الموقف. وحينئذ يخالف ذلك قول فقهائنا إن الصحابة رضي الله تعالى عنهم اقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد اقتدائهم بأبي بكر، وجعلوه دليلاً على جواز الصلاة بإمامين على التعاقب إذ لا يحسن ذلك إلا أن يكون أبو بكر رضي الله تعالى عنه تأخر ونوى الاقتداء به . إلا أن يقال يجوز أن تكون صلاته خلف أبي بكر تكررت، ففي مرة منعه من التأخر واقتدى به، وفي مرة تأخر أبو بكر رضي الله تعالى عنه عن موقفه، واقتدى بالنبي ، واقتدى الناس بالنبي بعد اقتدائهم بأبي بكر، وصار أبو بكر يسمع الناس التكبير، ولا ينافي ذلك قول البخاري الرجل يأتم بالإمام ويأتم الناس بالمأموم، لجواز أن يكون المراد يقتدون ويتبعون تكبير المأموم، ثم رأيت الترمذي رحمه الله تعالى صرح بتعدد صلاته خلف أبي بكر رضي الله تعالى عنه حيث قال: ثبت أنه صلى خلف أبي بكر مقتدياً به في مرضه الذي مات فيه ثلاث مرات، ولا ينكر هذا إلا جاهل لا علم له

بالرواية هذا كلامه.
وبه يردّ قول البيهقي رحمه الله: والذي دلت عليه الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خلفه في تلك الأيام التي كان يصلي بالناس فيها مرة، وصلى أبو بكر رضي الله تعالى عنه خلفه مرة، وقال في مرضه ذلك يوماً لعبد الله بن زمعة بن الأسود: مر الناس فليصلوا: أي صلاة الصبح. وكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه غائباً، فقدّم عبدُ الله عمرَ رضي الله تعالى عنه يصلي بالناس، فلما يمع رسول الله صوته أخرج رأسه الشريف حتى أطلعه للناس من حجرته، ثم قال : لا، لا، لا، ثلاث مرات، ليصلّ بهم ابن أبي قحافة، فانتفضت الصفوف، وانصرف عمر رضي الله تعالى عنه: أي من الصلاة، فما برح القوم حتى طلع ابن أبي قحافة فتقدم وصلى بالناس الصبح. وفي رواية أنه لما سمع صوت عمر رضي الله تعالى عنه قال: أليس هذا صوت عمر؟ فقالوا: بلى يا رسول الله، فقال: يأبى الله ذلك والمؤمنون. وفي لفظ: يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر، قال ذلك ثلاثاً. قال في السيرة الهشامية: فبعث إلى أبي بكر فجاء بعد أن صلى عمر رضي الله تعالى عنه تلك الصلاة فصلى بالناس.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 455

وقد يقال: المراد بصلى عمر تلك الصلاة نوى تلك الصلاة ودخل فيها، فلا يخالف ما تقدم من انتقاض الصفوف، وانصراف عمر رضي الله تعالى عنه من الصلاة. وقال عمر رضي الله تعالى عنه لعبد الله بن زمعة: ويحك ماذا صنعت يا ابن زمعة؟ والله ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك بهذا، فقال عبد الله بن زمعة رضي الله تعالى عنه: ما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ولكن حيث لم أر أبا بكر ورأيتك أحق من حضر بالصلاة، وفي آخر يوم أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من الستارة والناس خلف أبي بكر، فأراد الناس أن ينحرفوا فأشار إليهم أن امكثوا، وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى من هيئة المسلمين في صلاتهم سروراً منه بذلك، وذلك يوم الاثنين يوم موته ثم ألقى الستارة.

وفي السيرة الهشامية: لما كان يوم الاثنين قبض الله تبارك وتعالى فيه رسول الله ، وخرج إلى الناس وهم يصلون الصبح، فرفع الستر وفتح الباب، فخرج رسول الله ، فقام على باب عائشة رضي الله تعالى عنها، فكاد المسلمون يقتتلون في صلاتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه فرحاً به، فأشار إليهم: أن اثبتوا على صلاتكم، ثم رجع وانصرف الناس وهم يرون أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أفاق من وجعه، فرجع أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى أهله بالسنح، وفيها في رواية أنه لما كان يوم الاثنين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصباً رأسه إلى صلاة الصبح أبو بكر يصلي بالناس، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فرح الناس، فعرف أبو بكر رضي الله تعالى عنه أن الناس لم يصيبوا ذلك إلا لرسول الله ، فنكص عن مصلاه، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظهره، وقال: صل بالناس وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه على يمين أبي بكر رضي الله تعالى عنه فصلى قاعداً، فلما فرغ من الصلاة أقبل على الناس رافعاً صوته حتى خرج من باب المسجد يقول: «أيها الناس سعرت النار، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، إني والله ما تمسكون عليّ بشيء، إني لم أحل إلا ما حل القرآن ولم أحل إلا ما حرم القرآن».

ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلامه، قال له أبو بكر رضي الله تعالى عنه يا رسول الله قد أراك أصبحت بنعمة من الله وفضل كما تحب، واليوم يوم بنت خارجة أفآتيها؟ قال نعم، ثم دخل ، وخرج أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى أهله بالسنح، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الضحى من ذلك اليوم، فليتأمل الجمع بين هذه الروايات. وقد أمر أبا بكر رضي الله تعالى عنه أن يصلي بالناس قبل مرضه، فإنه خرج إلى قباء بعد أن صلى الظهر وقد وقع بين ظائفتين من بني عمرو بن عوف تشاجر حتى تراموا بالحجارة ليصلح بينهم، فقال لبلال رضي الله تعالى عنه: إن حضرت صلاة العصر ولم آتك فمر أبا بكر فليصلّ بالناس، فلما حضرت صلاة العصر أذن بلال، ثم أقام ثم أمر أبا بكر رضي الله تعالى عنه فتقدم وصلى بالناس، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يشق الناس حتى قام خلف أبي بكر فصفح الناس: أي صفقوا، فلما كثر ذلك التفت أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه فأراد التأخر، فأومأ إليه أن يكون على حاله، وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته؟ قال: يا أبا بكر ما يمنعك إذ أومأت إليك أن لا تكون ثبتّ، فقال أبو بكر: يا رسول الله لم يكن لابن أبي قحافة أن يؤم رسول الله ، فقال للناس: إذا نابكم في صلاتكم شيء فلتسبح الرجال ولتصفق النساء.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 455
وهذا استدل به القاضي عياض رحمه الله على أنه لا يجوز لأحد أن يؤمه ، لأنه لا يصلح للتقدم بين يديه في الصلاة ولا في غيرها لا لعذر ولا لغيره.
وقد نهى الله المؤمنين عن ذلك، ولا يكون أحد شافعاً له : وقد قال «أئمتكم شفعاؤكم» وحينئذ يحتاج للجواب عن صلاته خلف عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه ركعة، وسيأتي الجواب عن ذلك، ولعل هذه المرة كانت في اليوم الذي توفي فيه .

فقد جاء أنه صلى بالناس الغداة، ورأى المسلمون أنه قد برىء ففرحوا فرحاً شديداً، ثم جلس في مصلاه يحدثهم حتى أضحى، ثم قام إلى بيته فلم يتفرق الناس من مجلسهم حتى سمعوا صياح الناس، وهبّ يقلب الماء ظناً أنه غشي عليه وابتدر المسلمون الباب فسبقهم العباس رضي الله تعالى عنه، فدخل وأغلق الباب دونهم. فلم يلبث أن خرج إليهم فنعى رسول الله . فقالوا: يا عباس ما أدركت منه ؟ فقال: أدركته وهو يقول: جلال ربي الرفيع، قد بلغت، ثم قضى، فكان هذا آخر شيء تكلم به رسول الله ، ثم رأيته في الإمتاع نقل هذا القول الذي قدمته عن البيهقي.

وذكر في رواية أخرى: لم يزل أبو بكر رضي الله تعالى عنه يصلي بالناس حتى كانت ليلة الاثنين، فأقلع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الوعك وأصبح مفيقاً، فعمد إلى صلاة الصبح يتوكأ على الفضل وعلى غلام له يدعى ثوبان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وقد شهد الناس مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه ركعة من صلاة الصبح، وقام ليأتي بالركعة الأخرى، فجاء إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ينفرجون له حتى قام إلى جنب أبي بكر رضي الله تعالى عنه فاستأخر أبو بكر رضي الله تعالى عنه عن رسول الله ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوبه فقدمه في مصلاه وجلس ، فلما فرغ أبو بكر رضي الله تعالى عنه من صلاته أتمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الأخيرة. ثم انصرف إلى جذع من جذوع المسجد فجلس إلى ذلك الجذع، واجتمع إليه المسلمون يسلمون عليه ويدعون له بالعافية ثم قام فدخل إلى بيت عائشة، ودخل أبو بكر رضي الله تعالى عنه على عائشة رضي الله تعالى عنها، وقال: الحمد لله قد أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم معافى، وأرجو أن يكون الله عز وجل قد شفاه، ثم ركب رضي الله تعالى عنه فلحق بأهله بالسنح، وانقلبت كل امرأة من نسائه إلى بيتها، فلما دخل اشتد عليه الوعك، فرجع إليه من كان ذهب من نسائه، وأخذ في الموت فصار يغمى عليه ثم يفيق ويشخص بصره إلى السماء، فيقول في الرفيق الأعلى الإله، وكان عنده وقد اشتد به الأمر قدح فيه ماء. وفي لفظ بدل قدح علباء. وفي لفظ ركوة فيها ماء، فلما اشتد عليه الأمر صار يدخل يده الشريفة في القدح ثم يمسح وجهه الشريف بالماء ويقول: اللهم أعنى على سكرات الموت: أي غمراته.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 455
وعن فاطمة رضي الله تعالى عنها: «صار لما يغشاه الكرب وتقول واكرب أبتاه يقول لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس على أبيك كرب بعد اليوم».

أقول: وجاء: «أنه قال: واكرباه، وقال: لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات، اللهم أعني على سكرة الموت» وفي رواية: «اللهم أعني على كرب الموت» والحكمة في ذلك، أي فيما شوهد من شدة ما لقي من الكرب عند الموت تسلية أمته إذا وقع لأحد منهم شيء من ذلك عند الموت. ومن ثم قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: لا أكره شدة الموت لأحد أبداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية: لا أزال أغبط المؤمن بشدة الموت بعد شدته على رسول الله صلى الله عليه وسلم وليحصل لمن شاهده من أهله وغيرهم من المسلمين الثواب لما يلحقهم من المشقة عليه كما قيل بمثل ذلك في حكمة ما يشاهد من حال الأطفال عند الموت من الكرب الشديد.
ثم رأيت الأستاذ الأعظم الشيخ محمد البكري رحمه الله ونفعنا به سئل عن ذلك. فأجاب بأجوبة منها هذا الذي ذكرته. ومنها أن مزاجه الشريف كان أعدل الأمزجة فإحساسه بالألم أكثر من غيره.
ومن ثم قال : إني لأوعك كما يوعك رجلان منكم، ولأنّ تشبت الحياة الإنسانية ببدنه الشريف أقوى من تشبثها ببدن غيره لأنه أصل الموجودات كلها أي كما تقدم. أي وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: ما رأيت الوجع على أحد أشدّ منه على رسول الله ، وقال في مرضه: «ليس أحد أشد بلاء من الأنبياء. كان النبي من أنبياء الله يسلط عليه القمل حتى يقتله. وكان النبي صلى الله عليه وسلم ليعرى حتى ما يجد ثوباً يوارى به عورته إلا العباءة يدرعها، وإن كانوا ليفرحون بالبلاء كما تفرحون بالرخاء».

وقال : «ما يبرح البلاء على العبد حتى يدعه يمشي على الأرض ليس عليه خطيئة» وقال: «ليس من عبد مسلم يصيبه أذى فما سواه إلا حط عنه خطاياه كما تحط الشجرة ورقها» وفي لفظ: «لا يصيب المؤمن نكبة من شوكة فما قوقها إلا رفع الله له بها درجة وحط عنه بها خطيئة» وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل يشتكي ويتقلب على فراشه. وكان يعوّذ بهذه الكلمات إذا اشتكى أحد من الناس منه «أذهب الباس رب الناس، واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً فلما ثقل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضه الذي مات فيه أخذت بيده اليمنى وجعلت أمسحه بها فأعوذه بتلك الكلمات، فانتزع يده الشريفة من يدي وقال: اللهم اغفر لي، واجعلني في الرفيق الأعلى مرتين».
وفي رواية: «لم يشتك شكوى إلا سأل الله العافية» حتى كان مرضه الذي مات فيه فإنه لم يكن يدعو بالشفاء، وطفق يقول: يا نفس ما لك تلوذين كل ملاذ.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 455

أي وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: دخل عليَّ عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما ومعه سواك يستن به: أي من عسيب النخل، وكان أحب السواك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ضريع الأراك: وهو قضيب يلتوي من الإراكة حتى يبلغ التراب فيبقى في ظلها فهو ألين من فرعها فنظر إليه رسول الله ، فعرفت أنه يريده لأنه كان يحب السواك، فقلت، آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فتناولته فقضمته ثم مضغته. وفي رواية: فتناولته وناولته إياه فاشتد عليه، فقلت ألينه لك؟ فأشار برأسه نعم، فلينته، فأعطيته رسول الله ، فاستن به وهو مستند إلى صدري. وكانت رضي الله تعالى عنها تقول: إن من نعم الله عليّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وهو في بيتي وبين سحري ونحري: أي والسحر: الرئة. وفي رواية: بين حاقنتي وذاقنتي، وإن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته. وفي رواية: فجمع الله بين رقي وريقه في آخر يوم من الدنيا، وأول يوم من الآخرة.
وجاء أنهم لددوه في هذا المرض: أي سقوه لدوداً من أحد جانبي فمه، وجعل يشير إليهم وهو مغمى عليه أن لا يفعلوا به وهم يظنون أن الحامل له ذلك كراهة المريض للدواء، فلما أفاق قال، ألم أنهكم أن تلدوني لا يبقى أحد في البيت إلا لد وأنا أنظره إلا العباس فإنه لم يشهدكم، وهذا رد عليهم، فإنه قد جاء أنهم قالوا له: عمك العباس أمر بذلك ولم يكن له في ذلك رأي، إنما قالوا ذلك تعللاً وخوفاً منه ، قالوا وتخوفنا أن يكون ذات الجنب، فإن الخاصرة أي وهو عرق في الكلية إذا تحرك وجع صاحبه، كانت تأخذ رسول الله ، فأخذته ذلك اليوم فأغمي عليه حتى ظنوا أنه قد هلك فلددوه: أي لددته أسماء بنت عميس رضي الله تعالى عنها، فلما أفاق وأراد أن يلدد من في البيت لدد جميع من في البيت حتى ميمونة رضي الله تعالى عنها وكانت صائمة، هذا.

وفي رواية أنه لما اشتد عليه المرض دخل عمه العباس رضي الله عنه وقد أغمي عليه، فقال لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم لو لددتنه. فلن إنا لا نجترىء على ذلك، فأخذ العباس يلدده، فأفاق رسول الله ، فقال: من لدني، فقد أقسمت ليلددن إلا أن يكون العباس، فإنكم لددتموني وأنا صائم، قلن فإن العباس هو قد لدك، وقالت له أسماء بنت عميس رضي الله عنها، إنما فعلنا ذلك ظننا أن بك يا رسول الله ذات الجنب، فقال لها: إن ذلك لداء ما كان الله ليعذبني به. وفي رواية: «أنا أكرم على الله من أن يعذبني بها» وفي أخرى «إنها من الشيطان، وما كان الله ليسلطها عليّ».
قال بعضهم: وهذا يدل على أنها من سيء الأسقام التي استعاذ منها بقوله: «اللهم إني أعوذ بك من الجنون والجذام وسيء الأسقام».
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 455
وفي السيرة الهشامية: لما أغمي عليه اجتمع عليه نساء من نسائه منهم أم سلمة وميمونة، ومن نساء المؤمنين منهم أسماء بنت عميس، وعنده العباس عمه، واجتمعوا على أن فلددوه، فلما أفاق قال: من صنع هذا بي؟ قالوا يا رسول الله عمك، فقال عمه العباس رضي الله تعالى عنه: حسبنا يا رسول الله أن يكون بك ذات الجنب، فقال: إن ذلك داء ما كان الله ليعذبني به، لا يبقى في البيت أحد إلا لد إلا عمي، فلدوا حتى ميمونة، وكانت رضي الله تعالى عنها صائمة عقوبة لهم بما صنعوا.
وأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه هذا أربعين نفساً، وكانت عنده سبعة دنانير أو ستة، فأمر عائشة رضي الله عنها أن تتصدق بها بعد أن وضعها في كفه وقال: ما ظن محمد بربه، أن لو لقي الله وهذه عنده فتصدقت بها.
وفي رواية: أمرها بإرسالها إلى علي كرم الله وجهه ليتصدق بها، فبعثت بها إليه فتصدق بها بعد أن وضعها في كفه، وقد كان العباس رضي الله عنه قبل ذلك بيسير رأى أن القمر قد رفع من الأرض إلى السماء، فقصها على النبي ، فقال له ابن أخيك.

وجاءه جبريل عليه السلام صحبة ملك الموت وقال له: يا أحمد إن الله قد اشتاق إليك، قال: فاقبض يا ملك الموت كما أمرت. فتوفي رسول الله . وفي لفظ: أتاه جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد إن الله أرسلني إليك تكريماً لك وتشريفاً، يسألك عما هو أعلم به منك، يقول لك: كيف تجدك؟ قال: أجدني يا جبريل مغموماً وأجدني يا جبريل مكروباً، ثم جاء اليوم الثاني والثالث، فقال له ذلك، فردّ عليه بمثل ذلك، وجاء معه في اليوم الثالث ملك الموت، فقال له جبريل عليه السلام: هذا ملك الموت يستأذن عليك، ما استأذن على أحد قبلك، ولا يستأذن على آدمي بعدك، أتاذن له فأذن له فدخل فسلم عليه، ثم قال: يا محمد إن الله أرسلني إليك، فإن أمرتني أن أقبض روحك قبضت، وإن أمرتني أن أترك تركت، قال: أو تفعل؟ قال: نعم وبذلك أمرت، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام، فقال له: يا محمد إن الله قد اشتاق إلى لقائك، أي وفي رواية: أتاه جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد إن الله يقرئك السلام ورحمة الله، ويقول لك: إن شئت شفيتك وكفيتك، وإن شئت توفيتك وغفرت لك، قال: ذلك إلى ربي يصنع بي ما يشاء.
وفي رواية: الخلد في الدنيا ثم في الجنة أحب إليك أم لقاء ربك، ثم الجنة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقاء ربي ثم الجنة.
أي وجاء جبريل عليه السلام قال: هذا آخر وطىء بالأرض، وفي لفظ آخر عهدي بالأرض بعدك، ولي أهبط إلى الأرض لأحد بعدك. قال الحافظ السيوطي رحمه الله: هو حديث ضعيف جداً، ولو صح لم يكن فيه معارضة، أي لما ورد أنه ينزل ليلة القدر مع الملائكة يصلون على كل قائم وقاعد يذكر الله لأنه يحمل على أنه آخر نزوله بالوحي.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 455

وفيه أنه ذكر أن حديث: يوحي الله إلى عيسى عليه السلام أي بعد قتله الدجال صريح في أنه يوحى إليه بعد النزول. والظاهر أن الجائي إليه عليه السلام بالوحي جبريل عليه السلام، بل هو الذي يقطع به ولا يتردد فيه لأن ذلك وظيفته لأنه السفير بين الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لملك الموت: امض لما أمرت به فقبض روحه الشريفة، وعند اشتداد الأمر به أرسلت عائشة رضي الله عنها خلف أبي بكر رضي الله تعالى عنه، أي لأنه كما تقدم لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مفيقاً وقال له قد رد الله بك علينا عقولنا، وقد أصبحت بنعمة من الله وفضل فقال له أبو بكر: يا رسول الله اليوم يوم بنت خارجة يعني زوجته وكانت بالسنح، قال له: ائت أهلك، فقام أبو بكر وذهب وأرسلت حفصة خلف عمر وأرسلت فاطمة خلف علي كرم الله وجهه فلم يجىء أحد منهم حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في صدر عائشة، وذلك يوم الاثنين حين زاغت الشمس لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول هكذا ذكر بعضهم.
وقال السهيلي: لا يصح أن يكون وفاته يوم الاثنين إلا في ثالث عشرة أو رابع عشرة لإجماع المسلمين على أن وقفة عرفة كانت يوم الجمعة وهو تاسع ذي الحجة وكان المحرم أما بالجمعة وإما بالسبت، فإن كان السبت فيكون أول صفر إما الأحد أو الاثنين فعلى هذا لا يكون الثاني عشر من ربيع الأول بوجه. وقال الكلبي: إنه توفي في الثاني من شهر ربيع الأول. قال الطبري: وهذا القول وإن كان خلاف الجمهور فلا يبعد إن كانت الثلاثة أشهر التي قبلها كلها تسعة وعشرين يوماً، وفيما قاله نظر لمتابعة أنس بن مالك فيما حكاه البيهقي والواقدي.

وقال الخوارزمي: توفي أول شهر من ربيع الأول، وفي رواية إن سالم بن عبيد ذهب وراء الصديق إلى السنح فأعلمه بموت رسول الله ، ولا يخالف ما قبله لأنه يجوز أن يكون ذلك ذهب إلى الصديق بعد الرسول الذي أرسلته له عائشة رضي الله عنها قبل موته . وآخر ما تكلم به عليه الصلاة والسلام: «الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم» حتى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يترغرغ بها في صدره ولا يفيض بها لسانه. وآخر ما عهد به رسول الله «لا يترك بجزيرة العرب دينان» وكانت مدة شكواه ثلاث عشرة ليلة، وقيل أربع عشرة ليلة، وقيل اثنتي عشرة ليلة، وقيل عشراً، وقيل ثمانية.
وقالت فاطمة رضي الله عنها لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم: وا أبتاه أجاب داع دعاه، يا أبتاه الفردوس مأواه يا أبتاه إلى جبريل ننعاه.
قال ابن كثير رحمه الله: وهذا لا يعد نياحة بل هو من ذكر فضائل الحق عليه، عليه أفضل الصلاة والسلام؟ قال: وإنما قلنا ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن النياحة.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 455
وعن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت من سفاهة رأيي وحداثة سني أني أخذت وسادة فوسدت بها رأسه الشريف من حجري، ثم قمت مع النساء أبكي وأنتدم، والانتدام: ضرب الخد باليد عند المصيبة.
وسمعوا قائلاً ولا يرون شخصه، يقال إنه الخضر عليه السلام أي قال علي كرم الله وجهه أتدرون من هذا؟ هذا الخضر عليه السلام، وفي إسناده متروك يقول: السلام عليكم يا أهل البيت ورحمة الله وبركاته {كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة} إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفاً عن كل هالك، ودركاً من كل فائت، فبالله فثقوا وإياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

قال ابن كثير رحمه الله: هذا الحديث مرسل وفي إسناده ضعف. وسجي بثوب حبرة أي بالإضافة: برد من برود اليمن، ولم أقف على أن ثيابه التي كانت عليه قبل الموت نزعت عنه ثم سجي، إلا أن كلام فقهائنا يشعر بذلك، حيث جعلوا ذلك دليلاً لنزع ثياب الميت وستره بثوب.
وعند ذلك دهش الناس وطاشت عقولهم واختلفت أحوالهم، فأما عمر رضي الله تعالى عنه فخبل، وأما عثمان رضي الله تعالى عنه فأخرس، وأما علي كرم الله وجهه فأقعد: وجاء أبو بكر وعيناه تهملان، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً، وتكلم كلاماً بليغاً سكن به نفوس المسلمين وثبت جأشهم.
أي فإن عمر رضي الله تعالى عنه صار في ناحية المسجد يقول: والله مات رسول الله ، ولا يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقطع أيدي ناس من المنافقين كثير وأرجلهم، وصار رضي الله عنه يتوعد من قال إنه مات، بالقتل أو القطع.
ونقل عنه رضي الله عنه أنه قال: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات، ولكن ما مات، ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران عليه السلام، ثم رجع إلى قومه بعد أربعين ليلة بعد أن قيل قد مات، والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رجع موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم، ولا زال رضي الله عنه يتوعد المنافقين حتى أزبد شدقاه.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 455

فقام أبو بكر رضي الله عنه وصعد المنبر وقال كلاماً بليغاً. ثم قال: أيها الناس، من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين} فقال عمر رضي الله عنه: هذه الآية في القرآن. وفي لفظ: فكأني لم أسمع بها في كتاب الله تعالى قبل الآن لما نزل. ثم قال: {إنا لله وإنا إليه راجعون} صلوات الله وسلامه على رسوله ، وعند الله نحتسب رسوله، قال: يعني أبا بكر رضي الله تعالى عنه، وقال الله تعالى لمحمد {إنك ميت وإنهم ميتون}، وقال تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون}. وقال تعالى: {كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام}، وقال تعالى {كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة}، فلما بويع أبو بكر رضي الله عنه بالخلافة كما سيأتي أقبلوا على جهاز رسول الله ، واختلفوا هل يغسل في ثيابه أو يجرد منها كما تجرد الموتى، فألقى الله عليهم النوم وسمعوا من ناحية البيت قائلاً يقول: لا تغسلوه فإنه كان طاهراً، فقال أهل البيت صدق فلا تغسلوه، فقال العباس رضي الله عنه لا ندع سنة لصوت لا ندري ما هو، فغشيهم النعاس ثانية، فناداهم أن غسلوه وعليه ثيابه، أي وزاد في رواية: «فإن ذلك إبليس وأنا الخضر» وفي رواية: «لا تنزعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه» قال الذهبي حديث منكر، فقاموا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسلوه وعليه قميصه، وفي لفظ وعليه قميص ومحول مفتوح يصبون عليه الماء ويدلكونه والقميص دون أيديهم عليّ والعباس وكذا ولدا العباس الفضل وقثم، فكان العباس وابناه الفضل وقثم يقلبونه مع عليّ، وفي لفظ: «غسله علي والفضل» محتضنه والعباس يصب الماء وجعل الفضل رضي الله عنه يقول: أرحني قطعت وتيني، وأسامة وشقران مولاه، وفي لفظ: «وصالح مولاه يصبان الماء، ولف عليّ كرم

الله وجهه على يده خرقة وأدخلها تحت القميص يغسل بها جسده الشريف».
وعن علي كرم الله وجهه: ذهبت ألتمس منه ما يلتمس من الميت: أي ما يخرج من بطن الميت فلم أر شيئاً، فكان طيباً حياً وميتاً، وما تناولت منه عضواً إلا كأنما يقلبه معي ثلاثون رجلاً: أي ويحتاج إلى الجمع بين هذا، وما تقدم عن الفضل رضي الله عنه.
قيل وتغسيل علي كرم الله وجهه له كان بوصية منه له. فعن علي كرم الله وجهه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني أن لا يغسله أحد غيري وقال: لا يرى أحد عورتي إلا طمست عيناه غيرك، أي على فرض وقوع ذلك فلا ينافي ما تقدم، وادعى الذهبي أن هذا الحديث منكر. وفي رواية: فكان الفضل وأسامة يناولان الماء من وراء الستر، وأعينهما معصوبة. وفي لفظ: مكان العباس وأسامة يناولان الماء من وراء الستر، لأن العباس رضي الله عنه نصب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلة: أي خيمة رفيعة من ثياب يمانية في جوف البيت وأدخل علياً فيها، زاد بعضهم: والفضل وأبا سفيان بن الحارث ابن عمه .
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 455
ونصب الكلة دليل لقول فقهائنا رحمه الله: والأكمل وضع الميت عند الغسل بموضع خال من الناس مستور عنهم لا يدخله إلا الغاسل ومن يعينه. والذي رواه ابن ماجه رحمه الله أنه تولى غسله علي والفضل، وأسامة بن زيد يناول الماء، والعباس واقف: أي لا يغسل ولا يناول الماء: أي ويحتاج للجمع بين هذه الروايات.
وقيل إن العباس لم يشاهد غسله ، وعن علي رضي الله عنه: لما غسلت النبي صلى الله عليه وسلم اجتمع ماء في حقويه فرفعته بلساني وازدردته فأورثني ذلك قوة حفظي.
ويروى أنه كرم الله وجهه، رأى في عينه قذاة فأدخل لسانه فأخرجها منها.

وعن عائشة رضي الله عنها: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه: أي لو ظهر لها قولها المذكور وقت غسله ما غسله إلا نساؤه، وغسل ثلاث غسلات: واحدة بالماء القراح، وواحدة بالماء والسدر، أي والغسلة التي كانت بالماء القراح كانت قبل الغسلة التي بالسدر فهي المزيلة وواحدة بالماء مع الكافور، أي وهذه هي المجزئة في الغسل هذا.
وفي كلام سبط ابن الجوزي رحمه الله: وغسل في المرة الأولى بالماء القراح، وفي الثانية بالماء والسدر، وفي الثالثة بالماء والكافور.
وفي لفظ: فغسلوه بالماء القراح، وطيبوه بالكافور في مواضع سجوده ومفاصله، وغسل من ماء بئر غرس وهي بئر بقباء، قال : «نعم البئر بئر غرس هي من عيون الجنة وماؤها أطيب الماء» وكان يشرب منها، ويؤتى له بالماء منها.
وعند ابن ماجه رحمه الله ، قال لعلي كرم الله وجهه: «إذا أنا مت فاغسلني بسبع من بئري بئر غرس».
وكفن بثلاثة أثواب سحولية: أي بيض من القطن، من عمل سحولة: قرية من قرى اليمن، وفي رواية الشيخين عنها: كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض يمانية ليس فيها قميص ولا عمامة، قيل إزار ورداء ولفافة، وقوله ليس فيها قميص ولا عمامة: أي ولم يكن في كفنه ذلك كما فسر بذلك إمامنا الشافعي رحمه الله وجمهور العلماء، قال بعضهم: وهو الصواب الذي يقتضيه ظاهر الحديث.
وما قيل إن معناه أن القميص والعمامة زائدان على الأثواب الثلاثة ليس في محله، لأنه لم يثبت أنه كفن في قميص وعمامة، وهذا يدل على أنه نزع عنه القميص الذي غسل فيه قبل تكفينه في الأثواب الثلاثة.
وقيل كفن في ذلك الثوب بعد عصره. وفيه أنه لا يخلو عن الرطوبة وهي تفسد الأكفان. ويؤيد كونه كفن في ذلك الثوب ما جاء في رواية: «كفن في ثوبه الذي مات فيه وحلّة نجرانية» والحلة: ثوب فوق ثوب، قال ابن كثير: وهذا غريب جداً، وفي كلام بعضهم أنه حديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به.

رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 455
وفي رواية أنه كفن في الأثواب الثلاثة المتقدمة وزيادة برد حبرة أحمر.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أتي بالبرد ولفوه فيه ولكنهم ردوه، أي ثم نزع عنه ولم يكفنوه فيه، وفي رواية: ثوبين وبرد أحمر، وهذا يخالف ما عليه أئمتنا أن من كفن في ثلاثة أثواب يجب أن تكون لفائف يستر كل منها جميع البدن. وفي رواية كفن في سبعة أثواب.
وبعد تكفينه وذلك يوم الثلاثاء وضع على سرير، وفي لفظ: ثم أدرج في أكفانه وجمروه عوداً ونداً، ثم احتملوه حتى وضعوه على سرير وسجوه.
وذكر أنه كان عند علي كرم الله وجهه مسك، وقال إنه من فضل حنوط رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وصلى عليه الناس أفذاذاً لم يؤمهم أحد، وفي لفظ: لما أدرج في أكفانه وضع على سريره ثم وضع على شفير حفرته ثم صار الناس يدخلون عليه رفقاء رفقاء لا يؤمهم أحد.
وذكر أنه دخل عليه أبو بكر وعمر ومعهما نفر من المهاجرين والأنصار بقدر ما يسع البيت، فقالا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وسلم المهاجرون والأنصار كما سلم أبو بكر وعمر رضي الله عنهم، ثم صفوا صفوفاً لا يؤمهم أحد، وكان أبو بكر وعمر في الصف الأول الذي حيال رسول الله ، فقالا اللهم إنا نشهد أنه قد بلغ ما أنزل إليه، ونصح لأمته وجاهد في سبيل الله حتى أعز الله دينه وتمت كلمته، فاجعلنا إلهنا ممن تبع القول الذي أنزل معه، واجمع بيننا وبينه حتى تعرفه بنا وتعرفنا به فإنه كان بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً، لا نبتغي بالإيمان به بدلاً ولا نشتري به ثمناً أبداً، فيقول الناس آمين آمين، وهذا يدل على أنه المراد بالصلاة عليه الدعاء لا الصلاة على الجنازة المعروفة عندهم، والصحيح أن هذا الدعاء كان ضمن الصلاة المعروفة التي بأربع تكبيرات.

فقد جاء أن أبا بكر رضي الله عنه دخل عليه فكبر أربع تكبيرات ثم دخل عمر رضي الله عنه فكبر أربعاً، ثم دخل عثمان رضي الله عنه فكبر أربعاً، ثم طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام رضي الله عنهما، ثم تتابع الناس أرسالاً يكبرون عليه، أي وعلى هذا إنما خصوا الدعاء بالذكر لأنه الذي لا يليق به ، ومن ثم استشاروا كيف يدعون له فأشير بمثل ذلك.
قال: وقال ابن كثير رحمه الله: وهذا الأمر: أي صلاتهم عليه فرادى من غير إمام يؤمهم مجمع عليه. ولا يقال لأن المسلمين لم يكن لهم حينئذ إما لأنهم لم يشرعوا في تجهيزه عليه الصلاة والسلام إلا بعد تمام البيعة لأبي بكر رضي الله عنه لأنه لما تحقق موته ، واجتمع غالب المهاجرين على أبي بكر وعمر وانضم إليهم من الأنصار أسيد بن حضير في بني عبد الأشهل ومن معه من الأوس، وتخلف علي والزبير، أي ومن كان معهما من المهاجرين كالعباس وطلحة بن عبيد الله والمقداد وجمع من بني هاشم في بيت فاطمة رضي الله تعالى عنها وتخلف الأنصار بأجمعهم واجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، أي وفي دار سعد بن عبادة وكان سعد مريضاً مزملاً بثيابه بينهم: أي اجتمعوا أولاً ثم تفرق عنهم أسيد بن حضير رضي الله عنه ومن معه من الأوس.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 455
فلا يخالف ذلك ما تقدم من انضمام أسيد بن حضير رضي الله عنه ومن معه من المهاجرين رضي الله عنهم مع أبي بكر رضي الله عنه، ولا يخالف ذلك ما في بعض الروايات عن عمر رضي الله عنه وتخلف الأنصار عنا بأجمعهم في سقيفة بني ساعدة.

واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر رضي الله عنه إلا علياً والزبير ومن معهما تخلفوا في بيت فاطمة رضي الله عنها، فقال عمر رضي الله عنه لأبي بكر رضي الله عنه: انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار. أي فإنه أتاهم آت، فقال: إن هذا الحي من الأنصار مع سعد بن عبادة رضي الله عنه في سقيفة بني ساعدة قد انحازوا إليه، فإن كان لكم بأمر الناس حاجة فأدركوا الناس قبل أن يتفاقم أمرهم.
أي فعن عمر رضي الله عنه: «بينا نحن في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجل ينادي من وراء الجدران اخرج إليّ يابن الخطاب، فقلت: إليك عني فأنا عنك متشاغل، يعني بأمر رسول الله ، فقال: إنه قد حدث أمر، إن الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة فأدركهم قبل أن يحدثوا أمراً يكون فيه حرب.

قال: فانطلقنا نؤمهم: أي نقصدهم حتى رأينا رجلين صالحين، أي وهما عويمر بن ساعدة ومعدة بن عدي وهما من الأوس، قالا: أي تريدون؟ فقلت: نريد إخواننا من الأنصار فقالا: لا عليكم أن تقربوهم، واقضوا أمركم يا معشر المهاجرين بينكم. فقلت: والله لنأتينهم فانطلقنا حتى جئناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا هم مجتمعون، وإذا بين أظهرهم رجل مزمل، فقلت: من هذا؟ فقالوا: سعد بن عبادة، فقلت: ما له؟ قالوا إنه وجع، فلما جلسنا قام خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا وقد ذفت ذاقة منكم: أي دب قوم بالاستعلاء والترفع علينا تريدون أن تختزلونا من أهلنا، أي تنحونا عنه تستبدون به دوننا، فلما سكت أردت أن أتكلم، وقد كنت زورت مقالة أعجبتني أردت أن قولها بين يدي أبي بكر فقال أبو بكر رضي الله عنه: على رسلك يا عمر، فكرهت أن أغضبه وكنت أرى منه بعض الحدة فسكت، وكان أعلم مني، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قالها في بديهته وأفضل، فقال: أما بعد، فما ذكرتم من خير فأنتم له أهل، ولم تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحيّ من قريش هم أوسط العرب نسباً وداراً، يعني مكة ولدتنا العرب كلها فليست منها قبيلة إلا لقريش منها ولادة ودار، وكنا معاشر المهاجرين أول الناس إسلاماً ونحن عشيرته وأقاربه وذوو رحمه، فنحن أهل النبوّة وأهل الخلافة، ولم يترك شيئاً أنزل في الكتاب بأيديهم إلا قاله، ولا شيئاً قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن الأنصار إلا ذكره، ومنه «لو سلكت الناس وادياً وسلكت الأنصار وادياً لسلكت وادي الأنصار» وقال: «لقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد قريش ولاة هذا الأمر» فقال سعد رضي الله تعالى عنه صدقت، فقال أي الصديق رضي الله عنه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، أي وفي رواية أنه: أي الصديق رضي الله عنه، قال لهم: أنتم

الذين آمنوا ونحن الصادقون، وإنما أمركم الله أن تكونوا معنا فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} والصادقون: هم المهاجرون، قال الله تعالى: {للفقراء المهاجرين} إلى قوله{أولئك هم الصادقون}.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 455
وفي رواية: «أن أبا بكر رضي الله عنه احتج على الأنصار بخبر «الأئمة من قريش» وهو حديث صحيح ورد عن نحو أربعين صحابياً، وأنتم يا معشر الأنصار إخواننا في كتاب الله وشركاؤنا في الدين وأنتم أحق بالرضا بقضاء الله، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أيهما شئت وأخذ بيدي ويد أبي عبيدة بن الجراح فلم أكره ما قال غيرها، وكان والله أن أقدم فتضرب عنقي ولا يقربني ذلك من إثم أحب إليّ من أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، فقال كل من عمر وأبي عبيدة: لا ينبغي لأحد أن يكون فوقك يا أبا بكر أي وفي لفظ بل نبايعك، وأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا من عمر رضي الله عنه كان بعد أن أتى أبا عبيدة، وقال: إنك أمين هذه الأمة على لسان رسول الله ، فقال: ما رأيت بك ضعف رأي قبلها منذ أسلمت، أما بقي فيكم الصديق وثاني اثنين؟ وفي رواية أن أبا بكر رضي الله عنه قال لعمر ابسط يدك لأبايعك، فقال له أنت أفضل مني، فأجابه بأنت أقوى مني ثم كرر ذلك. فقال له: فأين قوتي مع فضلك.
واعترض قول أبي بكر المذكور، بأنه كيف يقول ذلك مع علمه بأنه أحق بالخلافة؟ وكيف يقدم أبا عبيدة على عمر مع أنه أفضل منه؟.
وأجيب بأنه رضي الله عنه قال ذلك لأنه استحيى أن يقول: رضيت لكم نفسي مع علمه بأن كلا من عمر وأبي عبيدة لا يقبل وأن أبا بكر رضي الله عنه كان يرى جواز تولية المفضول على من هو أفضل منه، وهو الحق عند أهل السنة لأنه قد يكون أقدر من الأفضل على القيام بمصالح الدين وأعرف بتدبير الأمر وما فيه انتظام حال الرعية.

رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 455
وعن قول أبي بكر رضي الله عنه ما ذكر قال قائل من الأنصار، أي وهو الحباب بحاء مهملة مضمومة فموحدة رضي الله عنه، ابن المنذر: أنا جذيلها المحك، وعذيقها المرجب بالجيم والجذيل تصغير الجذل: وهو عود ينصب للإبل الجرباء فتحتك به ليزول جربها. والمحكك: الذي كثر به الاحتكاك حتى صار أملس والعذيق تصغير العذق بفتح العين وهو النخلة، والمرجب المسند بالرجبة وهي خشبة ذات شعبتين يسند بها النخلة إذا كثر حملها، أي أنا ذو الرأي والتدبير الذي يستشفى به في الحوادث لا سيما هذه الحادثة، منا أمير ومنكم يا معشر قريش، وتتابعت خطباؤهم على ذلك. وقالوا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استعمل الرجل منكم قرن معه رجلاً منا فنرى أن يلي هذا الأمر رجلان منا ومنكم، فقام زيد بن ثابت رضي الله عنه، وقال للأنصار: أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين وكنا نحن أنصاره فنحن أنصار خليفته كما كنا أنصاره ثم أخذ بيد أبي بكر رضي الله عنه وقال هذا صاحبكم. فقال الحباب بن المنذر رضي الله عنه يا معشر الأنصار لا تسمعوا مقالة هذا فتذهب قريش بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم فأجلوهم من بلادكم، فأنتم أحق به منهم، أما والله وإن شئتم لنقيمها جذعة، فقال له عمر رضي الله عنه إذن يقتلك الله فقال بل أراك تقتل، فقام بشير بن سعد أبو النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما فقال: يا معشر الأنصار إنا كنا أول من سبق إلى هذا الدين وجهاد المشركين، ما قصدنا إلا رضا الله ورسوله فلا ينبغي لنا أن نستطيل على الناس، ولا نطلب عرض الدنيا، وإن قريشاً أولى بهذا الأمر فلا ننازعهم، فقال له الحباب، ألفيت على ابن عمك يعني سعد بن عبادة، فقال: لا والله ولكني كرهت أن أنازع قوماً حقاً جعله الله لهم وفي رواية قال عمر رضي الله عنه يا معشر الأنصار، ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه

وسلم قد أمر أبا بكر يؤم الناس وأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر وفي لفظ أن يقيمه عن مقامه الذي أقامه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر رضي الله عنه. وفي لفظ قالوا: نستغفر الله، لا تطيب أنفسنا، ولعل المراد قال معظمهم.
فلا يخالف ذلك ما جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه ولما كثر اللغط، وعلمت الأصوات حتى خشيت الاختلاف. وقلت: سفيان في غمد واحد لا يكونان وفي رواية: هيهات لا يجتمع فحلان في مغرس. فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر، وكذا قال له من الأنصار يد بن ثابت وأسيد بن حضير وبشير بن سعد رضي الله عنهم، فبسط يده: فبايعته وبايعه المهاجرون، ثم بايعه الأنصار. أي حتى سعد بن عبادة رضي الله عنه، خلافاً لمن قال إن سعد ابن عبادة أبى أن يبايع أبا بكر حتى لقي الله. أي فإنه رضي الله تعالى عنه توجه إلى الشام ومات بها.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 455
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: والعذر له في ذلك أنه رضي الله عنه تأوّل أن للأنصار في الخلافة استحقاقاً فبنى على ذلك، وهو معذور، وإن لم يكن ما اعتقده من ذلك حقاً هذا كلامه.
ولا ينافيه ما جاء عن عمر رضي الله عنه: وثبنا على سعد بن عبادة. فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة: أي فعلتم معه من الإعراض والإذلال ما يقتله، فقلت: قتل الله سعد بن عبادة، فإنه صاحب فتنة، نعم ينافيه ما حكاه ابن عبد البر أن سعد بن عبادة رضي الله عنه أبى أن يبايع أبا بكر حتى لقي الله.
قال بعضهم: ويضعفه ما جاء في بعض الروايات أن أبا بكر رضي الله عنه لما قال لسعد: لقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد: «قريش ولاة هذا الأمر»، قال له سعد: صدقت، نحن الوزراء وأنتم الأمراء، وبه يظهر التوقف فيما تقدم عن ابن حجر رحمه الله هذا.

وفي كلام سبط ابن الجوزي رحمه الله: فأنكروا على سعد أمره، وكادوا يطؤون سعداً فقال ناس من أصحابه: اتقوا سعداً لا تطؤوه، فقال عمر رضي الله عنه: اقتلوا سعداً قتله الله، ثم قام عمر رضي الله عنه على رأس سعد وقال: قد هممت أن أطأك حتى تنذر عيونك، فأخذ قيس بن سعد رضي الله عنهما بلحية عمر رضي الله عنه وقال: والله لو خفضت منه شعرة ما رجعت وفيك جارحة، فقال أبو بكر: مهلاً يا عمر، الرفق الرفق، ما هنا أبلغ، فقال عاد أبو بكر وعمر رضي الله عنهما إلى محلهما أرسلا له بايع فقد بايع الناس، فقال: لا والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبل، وأخضب من دمائكم سنان رمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يداي. والله لو اجتمع لكم الجن والإنس لما بايعتكم. فلما عاد الرسول وأخبرهم بما قال، قال له عمر: لا ندعه حتى يبايع، فقال له قيس بن سعد: دعه فقد لح فاتركوه، فتركوه، وكان سعد رضي الله عنه لا يحضر معهم، ولا يصلي في المسجد، ولا يسلم على من لقي منهم، فلم يزل مجانباً لهم حتى إذا كان بعرفة يقف ناحية عنهم، فلما ولي عمر رضي الله عنه الخلافة لقيه في بعض طرق المدينة، فقال له: إيه يا سعد فقال له: إيه يا عمر ،فقال له عمر: أنت صاحب المقالة، قال نعم أنا ذاك، وقد أفضى الله إليك هذا الأمر، كان والله صاحبك خيراً لنا، وأحب إلينا من جوارك، وقد أصبحت كارهاً لجوارك، فقال له عمر رضي الله عنه: إنه من كره جوار جاره تحول عنه، فقال له سعد: إني متحول إلى جوار من هو خير من جوارك، فخرج رضي الله عنه إلى الشام واستمر بها إلى أن مات في السنة الخامسة عشر من الهجرة.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 455
وذكر الطبري رحمه أن سعداً رضي الله عنه بايع مكرها، وهو وهم، هذا كلام سبط ابن الجوزي رحمه الله.

قال عمر رضي الله عنه: وإنما بايعت أبا بكر خشية إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة، فإما أن بيايعهم على ما لا نرضى، وإما أن نخالفهم فيكون فيه فساد، وذلك كان في يوم موته الذي هو يوم الاثنين، فلما كان الغد كانت البيعة العامة صعد أبو بكر رضي الله عنه المنبر، وقام عمر رضي الله عنه بين يدي أبي بكر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله ، وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه فبايعوه، فبايع الناس أبا بكر رضي الله عنه بيعة عامة بعد بيعة السقيفة. ثم تكلم أبو بكر رضي الله عنه فقال في خطبته، بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قويّ حتى أردّ عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا أشيعت الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذ عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، فقوموا إلى صلاتكم رحمكم الله.
وشن الغارة بعض الرافضة على قول الصديق رضي الله عنه فقوموني، بأنه كيف تجوز إمامة من يستعين بالرعية على تقويمه مع أن الرعية تحتاج إليه. وردّ بأن هذا من أكبر الدلائل على فضله، لقوله الآخر: أطيعوني ما أطعت الله، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم، لأن كل أحد ما عدا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تجوز عليه المعصية.

ولما بويع بالخلافة أصبح رضي الله تعالى عنه على ساعده قماش وهو ذاهب به إلى السوق، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: السوق، قال: تصنع هذا وقد وليت أمر المسلمين، قال: فمن أين أطعم عيالي، فقال: انطلق يفرض لك أبو عبيدة، فانطلقا إليه، فقال: أفرض لك قوت رجل من المهاجري ليس بأفضلهم: أي في سعة النفقة ولا بأوكسهم، وكسوة الشتاء والصيف، وإذا أبليت شيئاً رددته وأخذت غيره، ففرض له كل يوم نصف شاة. وفي رواية: جعل له ألفين فقال: زيدوني فإن لي عيالاً وقد شغلت عن السفارة فزادوه خمسمائة.
وهو رضي الله تعالى عنه أول من جمع القرآن وسماه مصحفاً، واتخذ بيت المال، وسها من جعل ذلك من أوّليات عمر رضي الله تعالى عنه.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 455
ولما تخلف عليّ والزبير ومن معهما كالعباس وطلحة بن عبيد الله والمقداد وجمع من بني هاشم في بيت فاطمة كما تقدم عن المبايعة، استمروا على ذلك مدة لأنهم رضي الله عنهم وجدوا في أنفسهم حيث لم يكونوا في المشورة: أي في سقيفة بني ساعدة مع أن لهم فيها حقاً. وقد أشار سيدنا عمر رضي الله عنه إلى بيعة أبي بكر رضي الله تعالى عنه كانت فلتة: أي بغتة لا عن استعداد لها، ولكن وقى الله شرها: أي لم يقع فيها مخالفة ولا منازعة، ولذلك لما اجتمعوا: أي علي والزبير والعباس وطلحة بن عبيد الله ومن تخلف عن المبايعة منهم بأبي بكر رضي الله عنه قام خطيباً وقال: والله ما كنت حريصاً على الإمارة يوماً ولا ليلة قط، ولا كنت راغباً فيها، ولا سألتها الله في سر ولا علانية، ولكن أشفقت من الفتنة: أي لو أخرت إلى اجتماعكم.

وقد روي أن شخصاً قال لأبي بكر رضي الله عنه: ما حملك على أن تلي أمر الناس وقد نهيتني أن أتأمر على اثنين، فقال: لم أجد من ذلك بداً، خشيت على أمة محمد الفرقة وقال: ما في الإمارة من راحة، لقد قلدت أمراً عظيماً ما لي به من طاقة،فقال علي والزبير رضي الله تعالى عنها ما غضبنا إلا لأنا أخرنا عن المشورة، وإنا ترى أبا بكر أحق الناس بها، إنه لصاحب الغار، إنه لنعرف شرفه وخيره، ولذا أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة من بين الناس وهو حي، فلم يكن تأخرهم رضي الله تعالى عنهم للقدح في خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه. ومن ثم قال إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه: أجمع الناس على خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، لأنهم لم يجدوا تحت أديم السماء خيراً من أبي بكر فولوه رقابهم. أي فالأمة أجمعت على حقية إمامة بكر رضي الله تعالى عنه، وهذا: أي اجتماع علي كرم الله وجهه بأبي بكر رضي الله تعالى عنهما كان بعد ما أرسل إليه علي كرم الله وجهه في الاجتماع به واجتمع به كما سيأتي، لكن سيأتي أن ذلك كان بعد موت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنها، وسياق غير واحد يدل على أن اجتماع عليّ والزبير ومبايعتهما أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان قبل موت فاطمة رضي الله تعالى عنها، وهو ما صححه ابن حبان وغيره، ويؤيده ما حكاه بعضهم أن الصديق رضي الله تعالى عنه خرج يوم الجمعة فقال، اجمعوا لي المهاجرين والأنصار، فاجتمعوا، ثم أرسل إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه والنفر الذين كانوا تخلفوا معه، فقال له: ما خلفك يا علي عن أمر الناس؟ فقال: خلفني عظيم المعتبة، ورأيتكم استقليتم برأيكم فاعتذر إليه أبو بكر رضي الله تعالى عنه بخوف الفتنة لو أخر، ثم أشرف على الناس وقال: أيها الناس هذا علي بن أبي طالب لا بيعة لي في عنقه، وهو بالخيار من أمره. ألا أنتم بالخيار جميعاً في بيعتكم، فإن رأيتم لها غيري فأنا أول من يبايعه،فلما سمع

ذلك علي كرم الله وجهه زال ما كان قد داخله، فقال أجل لا نرى لها غيرك، امدد يدك، فبايعه هو والنفر الذين كانوا معه فإن هذا دليل على أن علياً كرم الله وجهه بايع أبا بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 455
وفي كلام المسعودي: لم يبايع أبا بكر أحد من بني هاشم حتى ماتت فاطمة رضي الله تعالى عنها. وقال رجل للزهري: لم يبايع علي كرم الله وجهه أبا بكر ستة أشهر، فقال: لا والله ولا أحد من بني هاشم حتى بايعه علي كرم الله وجهه، فليتأمل الجمع على تقدير الصحة.
وقد جمع بعضهم بأن علياً كرم الله وجهه بايع أولاً، ثم انقطع عن أبي بكر لما وقع بينه وبين فاطمة ما وقع.
أي ويدل لهذا الجمع أن في رواية أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لما صعد المنبر ونظر في وجوه القوم، فلم ير الزبير رضي الله تعالى عنه فدعا به فجاء، فقال: قلت ابن عمة رسول الله وحواريه أردت أن تشق عصا المسلمين، فقال لا تثريب يا خليفة رسول الله، فقام فبايعه، ثم نظر في وجوه القوم فلم ير علياً كرم الله وجهه، فدعا به فجاء، فقال: قلت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخنته على ابنته أردت أن تشق عصا المسلمين، فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله ، فقام فبايعه.
ويبعد هذا الجمع ما في البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها فلما توفيت فاطمة رضي الله عنها التمس: أي علي كرم الله وجهه مصالحة أبي بكر رضي الله تعالى عنه ولم يكن بايع تلك الأشهر، فأرسل إلى أبي بكر الحديث.

والسبب الذي اقتضى الوقوع بين فاطمة وأبي بكر رضي الله تعالى عنهما أن فاطمة رضي الله تعالى عنها جاءت إلى أبي بكر تطلب إرثها مما أعطاه الأنصار له من أرضهم وما أوصى به إليه ، وهو وصية مخيريق عند إسلامه وهي سبعة حوائط في بني النضير. قال سبط ابن الجوزي: وهو أول وقف كان في الإسلام، ومما أفاء الله على رسوله من أرض بني النضير وفدك، ونصيبه من خيبر وهما حصنان من حصونها الوطيح وسلالم فإنه أخذهما صلحاً كما تقدم، وحصته مما افتتح منها عنوة وهو الخمس. فإن ذلك كله كان للنبي خاصة، فكان ينفق من ذلك على أهل بيته سنة وما بقي جعله في الكراع: أي الخيل والسلاح في سبيل الله، فربما احتاج إلى شيء ينفقه قبل فراغ السنة فيقترض، ولهذا توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند اليهودي على آصع من شعير، وافتكها أبو بكر، وتلك الدرع كانت ذات الفضول التي أهداها له سعد بن عبادة لما توجه إلى بدر كما تقدم، ولم يشبع هو ولا أهل بيته ثلاثة أيام تباعاً، أي متتابعة كما تقدم فقال لها أبو بكر رضي الله تعالى عنه: لست بالذي أقسم من ذلك شيئاً، ولست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به فيها إلا عملته، وإني أخشى إن تركت أمره أو شيئاً من أمره أن أزيغ. وفي رواية قال لها قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنما هي طعمة أطعمينها الله فإذا مت عادت على المسلمين، فإن اتهمتيني فسلي المسلمين يخبروك بذلك. وقال لها: قد قال رسول الله : «لا نورث ما تركناه صدقة» ولكن أعول من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوله، وأنفق على من كان ينفق عليه، وقوله صدقة هو بالرفع كما هو الرواية: أي الذي تركناه فهو صدقة، وقد منع بذلك عائشة وبقية أزواجه لما جئن إليه يطلبن ثمنهن.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 455

وزعمت الرافضة أن الصديق رضي الله تعالى عنه كان ظالماً لفاطمة رضي الله عنها بمنعه إياها من مخلف والدها، وأنه لا دليل له في هذا الخبر الذي رواه، لأن فيه احتجاجاً بخبر الواحد مع معارضته لآية المواريث.
ورد بأنه إنما حكم بما سمعه من رسول الله ، وهو عنده قطعي فساوى آية المواريث من قطيعة المتن، وكان مخصصاً لآية المواريث.
وذكر عن الرافضة أنهم زعموا أن صدقة بالنصب وأن ما نافية. ويرده صدر الحديث: «إنا معاشر الأنبياء لا نورث» وأما رواية: «نحن معاشر الأنبياء» فلم تجىء في كتاب من كتب الحديث كما قاله غير واحد، ومن رواه بذلك بالمعنى لأن نحن وإنا مفادهما واحد ولا يعارض ذلك قوله تعالى {وورث سليمان داود} وقوله تعالى حكاية عن زكريا: {فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث} إذ المراد وراثة العلم والحكمة.
وفي لفظ أنها رضي الله تعالى عنها قالت له: من يرثك؟ قال: أهلي وولدي، فقالت فمالي لا أرث أبي. فقال لها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا نورث فغضبت رضي الله تعالى عنها من أبي بكر رضي الله تعالى عنه وهجرته إلى أن ماتت، أي فإنها عاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر على ما تقدم. ومعنى هجرانها لأبي بكر رضي الله تعالى عنه أنها لم تطلب منه حاجة ولم تضطر إلى لقائه، إذ لم ينقل أنها رضي الله تعالى عنها لقيته ولم تسلم عليه، ولا كلمته.
وروى ابن سعد أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه جاء إلى بيت علي لما مرضت فاطمة فاستأذن عليها، فقال علي كرم الله وجهه: هذا أبو بكر على الباب يستأذن، فإن شئت أن تأذني له فأذني، قالت: وذاك أحب إليك؟ قال نعم، فأذنت له رضي الله تعالى عنه، فدخل واعتذر إليها فرضيت عنه، وأن أبا بكر رضي الله تعالى عنه صلى عليها.

وقال الواقدي: وثبت عندنا أن علياً كرم الله وجهه دفنها رضي الله تعالى عنها ليلاً، وصلى عليها ومعه العباس والفضل رضي الله تعالى عنهم ولم يعلموا بها أحداً. قال بعضهم: وكأنها تأولت قوله : «لا نورث» وحملت ذلك على الأموال. أي الدراهم والدنانير كما جاء في بعض الروايات: «لا تقسم ورثتي ديناراً ولا درهماً» بخلاف الأراضي، ولعل طلب إرثها من فدك كان منها بعد أن ادعت رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها فدكاً. وقال لها: هل لك بينة فشهد لها علي كرم الله وجهه وأم أيمن، فقال لها رضي الله عنه أبرجل وامرأة تستحقيها.
واعترض عليه الرافضة بأن فاطمة معصومة بنص {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} وخبر «فاطمة بضعة مني» فدعواها صادقة لعصمتها. وأيضاً شهد لها بذلك الحسن والحسين وأم كلثوم رضي الله تعالى عنهم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 455
ورد عليهم بأن من جملة أهل البيت أزواجه ولسن بمعصومات اتفاقاً فكذلك بقية أهل البيت. وأما كونها بضعة منه فمجاز قطعاً، وإنها كبضعة فيما يرجع للخير والشفقة. وأما زعم أنه شهد لها الحسن والحسين وأم كلثوم فباطل لم ينقل عن أحد ممن يعتمد عليه، على أن شهادة الفرع للأصل غير مقبولة.
وفي كلام سبط ابن الجوزي رحمه الله أنه رضي الله تعالى عنه كتب لها بفدك، ودخل عليه عمر رضي الله تعالى عنه فقال: ما هذا. فقال: كتاب كتبته لفاطمة بميراثها من أبيها فقال: مماذا تنفق على المسلمين وقد حاربتك العرب كما ترى، ثم أخذ عمر الكتاب فشقه.

وقد جاء أن بعد موت فاطمة رضي الله تعالى عنها: أي وذلك بعد ستة أشهر من موته إلا ليالي على ما تقدم، أرسل علي كرم الله وجهه وقد اجتمع علي وبنو هاشم إلى أبي بكر وقالوا: ائتنا ولا يأت معك أحد، كراهة أن يحضر عمر رضي الله تعالى عنه لما علموا من شدته، فخافوا أن ينتصر لأبي بكر رضي الله تعالى عنه، فيتكلم بكلام يوحش قلوبهم على أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فقال عمر رضي الله تعالى عنه لأبي بكر لا والله لا تدخل عليهم وحدك، قال ذلك خوفاً عليه أن يغلظوا عليه في المعاتبة، وربما كان ذلك سبباً لتغير قلبه فيترتب عليه ما لا ينبغي، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: وما يفعلون بي، والله لآتينهم، أي فدخل عليهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه وحده، فقال له علي كرم الله وجهه: إنا قد عرفناك لك فضلك وما أعطاك الله، ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك: أي لا نحسدك عليه، ولكن استبديت علينا بالأمر: أي لم تشاورنا فيه وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لنا نصيباً: أي في المشاورة، ففاضت عينا أبي بكر رضي الله تعالى عنه وقال: والذي نفسي بيدي لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي من قرابتي، فقال له علي كرم الله وجهه: موعدك العشية للبيعة، فلما صلى أبو بكر رضي الله تعالى عنه الظهر، أي وقد حضر عنده علي كرم الله وجهه رقي المنبر بكسر القاف، فتشهد وذكر شأن علي كرم الله وجهه وعذره في تخلفه عن البيعة ثم إن علياً رضي الله تعالى عنه بايعه: أي بعد أن عظم أبا بكر رضي الله تعالى عنه وذكر فضيلته وسابقته، وذكر أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة حق على أبي بكر، فأقبل الناس على علي كرم الله وجهه وقالوا: أصبت وأحسنت.

وقد علمت الجمع بين من قال بايع بعد ثلاثة أيام من موته ومن قال: لم يبايع إلا بعد موت فاطمة رضي الله عنها بعد ستة أشهر، وهو أنه بايع أولاً ثم انقطع عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه لما وقع بينه وبين فاطمة ما وقع، ثم بايعه مبايعة أخرى، فتوهم من ذلك بعض من لا يعرف باطن الأمر أن تخلفه إنما هو لعدم رضاه ببيعته قأطلق ذلك من أطلقه. ومن ثم أظهر علي كرم الله وجهه مبايعته لأبي بكر ثانياً بعد ثبوتها على المنبر لإزالة هذه الشبهة.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 455
وبهذا يعلم ما وقع في صحيح مسلم عن أبي سعيد من تأخر بيعة علي هو وغيره من بني هاشم إلى موت فاطمة، ومن ثم حكم بعضهم عليه الضعف.
ومما يؤيد الضعف ما جاء أن علياً وأبا بكر رضي الله عنهما جاءا لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته بستة أيام، فقال علي كرم الله وجهه: تقدم يا خليفة رسول الله، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: ما كنت لأتقدم رجلاً سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيه: «عليّ مني بمنزلتي من ربي» وصلاة أبي بكر رضي الله تعالى عنه بالناس لم تختص بالمرض، فقد جاء أنه وقع قتال بين بني عمرو بن عوف، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فأتاهم بعد الظهر ليصلح بينهم، فقال: يا بلال إن حضرت الصلاة ولم آت مر أبا بكر فليصل بالناس، فلما حضرت صلاة العصر أقام الصلاة، ثم أمر أبا بكر فصلى كما تقدم.

وفي شرح مسلم الإمام النووي رحمه الله: وتأخر علي كرم الله وجهه أي ومن تأخر معه عن البيعة لأبي بكر ليس قادحاً فيها، لأن العلماء اتفقوا على أنه لا يشترط لصحتها مبايعة كل أهل العقد والحل، بل مبايعة من تيسر منهم وتأخره كان للعذر أي الذي تقدم، وكان عذر أبي بكر وعمر وبقية الصحابة واضحاً لأنهم رأوا أن المبادرة بالبيعة من أعظم مصالح المسلمين، لأن تأخرها ربما لزم عليه اختلاف، فينشأ عنه مفاسد كثيرة كما أفصح به أبو بكر رضي الله تعالى عنه فيما تقدم.
وجاء كما تقدم أنه قيل لعلي كرم الله وجهه: هل عهد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخلافة؟ فحدثنا فأنت الموثوق به والمأمون على ما سمعت، فقال: لا والله لئن كنت أول من صدق به لا أكون أول من كذب عليه، لو كان عندي من النبي صلى الله عليه وسلم عهد في ذلك ما تركت القتال على ذلك، ولو لم أجد إلا بردتي هذه، وما تركت أخا بني تيم وعمر بن الخطاب ينوبان على منبره ، ولقاتلتهما بيدي، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يمت فجأة بل مكث في مرضه أياماً وليالي يأتيه المؤذن فيؤذنه بالصلاة فيأمر أبا بكر فيصلي بالناس وهو يرى مكاني، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم اخترنا لدنيانا من رضيه النبي صلى الله عليه وسلم لديننا فبايعناه وكان لذلك أهلاً، لم يختلف عليه من اثنان، فلما قبض تولاها عمر رضي الله تعالى عنه بمبايعته، وأقام فيها لم يختلف عليه منا اثنان، وأعطيت ميثاقي لعثمان رضي الله تعالى عنه، فلما مضوا بايعني أهل الحرمين وأهل هذين المصرين: أي الكوفة والبصرة، فوثب فيها من ليس مثلي ولا قرابته كقرابتي ولا علمه كعلمي ولا سابقته كسابقتي، وكنت أحق بها منه، يعني معاوية فهو رأي رأيته وفي لفظ لكن شيء رأيناه من قبل أنفسنا، فهذا تصريح منه كرم الله وجهه بأنه لم ينص على إمامته.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 455

وأما قوله يوم غدير خم عند مرجعه من حجة الوداع بعد أن جمع الصحابة وكرر عليهم: «ألست أولى بكم من أنفسكم ثلاثاً» وهم يجيبونه بالتصديق والاعتراف ثم رفع يد علي كرم الله وجهه وقال: «من كنت مولاه فعليّ مولاه» الحديث فتقدم الكلام عليه وأن ذلك لا يدل على الخلافة.
وإنما قال سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه: إن بيعة أبي بكر رضي الله تعالى عنه كانت فلتة: أي من غير استعداد ولا مشورة كما تقدم، رداً على من بلغه عنه أنه قال إذا مات عمر بايعت فلاناً، والله ما كانت بيعة أبي بكر بمشورة، فالبيعة لا تتوقف على ذلك فغضب فلما رجع من آخر حجة حجها المدينة قال على المنبر: قد بلغني أن فلاناً قال والله لو مات عمر بن الخطاب لقد بايعت فلاناً، إن بيعة أبي بكر كانت فلتة من غير مشورة، فلا يغترن امرؤ أن يقول إن بيعة أبي بكر كانت فلتة، فنعم، وأنها كانت كذلك إلا أن الله قد وقى شرها، وليس فيكم من تنقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، فمن بايع رجلاً من غير مشورة المسلمين فإنه لا بيعة له ولا الذي بايعه.

ولما ثقل المرض على الصديق رضي الله تعالى عنه دعا عبد الرحمن فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب، فقال: أنت أعلم به مني، فقال الصديق وإن فقال، عبد الرحمن: هو والله أفضل من رأيك فيه، ثم دعا عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقال: أخبرني عن عمر فقال: أنت أخبرنا به، ثم دعا علياً كرم الله وجهه وقال له مثل ذلك، ثم قال علي كرم الله وجهه: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله، ودعا جمعاً من الأنصار فيهم أسيد بن حضير وسألهم، فقال: اللهم أعلمه يرضى للرضا ويسخط للسخط الذي يسر خير الذي يعلن، ولن يلي هذا الأمر أحد أقوى عليه منه، فعند ذلك دعا عثمان رضي الله تعالى عنه، فقال: اكتب «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها، وأول عهده بالآخرة داخلاً فيها حيث يؤمن ويوقن الفاجر ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا، فإن عدل فذلك ظني فيه وعلمي به، وإن بدل فلكل امرىء ما اكتسب، والخير أردت، ولا أعلم الغيب {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» ثم أمر بالكتاب فختم، ثم دعا عمر خالياً فأوصاه بالمسلمين، وقبل أن يظهر الصديق رضي الله عنه هذا الأمر، اطلع على الناس من كوّة وقال: أيها الناس إني قد عهدت عهداً أفترضون به؟ فقال الناس: رضينا يا خليفة رسول الله، فقام عليّ كرم الله وجهه فقال: لا نرضى إلا أن يكون عمر قال: فإنه عمر وكانت صلاتهم عليه كصلاتهم على غيره: أي بتكبيرات أربع لا مجرد الدعاء من غير تكبيرات ا هـ، وهو يخالف ما تقدم المفيد أن صلاتهم إنما كانت مجرد الدعاء لا الصلاة المعهودة.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 455
وقد يقال: لا مخالفة، وإنما نصوا على الدعاء لكونه مخالفاً للدعاء المعروف في صلاة الجنازة على غيره .

وفي شرح مسلم عن القاضي عياض: واختلف هل صلى عليه : فقيل: لم يصل عليه أحد أصلاً، وإنما كان الناس يدخلون أرسالاً يدعون ويتضرعون. والصحيح الذي عليه الجمهور أنهم صلوا عليه أفراداً، فكان يدخل عليه فوج يصلون فرادى ثم يخرجون، ثم يدخل فوج آخر فيصلون كذلك.
وعن ابن الماجشون: صُلي عليه اثنان وسبعون صلاة كحمزة رضي الله عنه قيل له: من أين لك هذا؟ قال: من الصندوق الذي تركه مالك رحمه الله تعالى بخطه عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما، فصلى عليه الرجال الأحرار أولاً ثم النساء الأحرار ثم الصبيان ثم العبيد ثم الإماء.
واختلفوا في الموضع الذي يدفن فيه، فمن قائل يدفن في البقيع، ومن قائل ينقل ويدفن عند إبراهيم الخليل، فقال أبو بكر رضي الله عنه: ادفنوه في الموضع الذي قبض فيه، فإن الله لم يقبض روحه إلا في مكان طيب.
أي وفي رواية أنه رضي الله عنه قال: إن عندي في هذا خبراً سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يدفن نبي إلا حيث قبض». وفي لفظ: «لا يقبض الله روح نبي إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه».
وعن أبي بكر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يقبض النبي إلا في أحب الأمكنة إليه» قال بعضهم: ولا شك أن أحبها: أي الأمكنة إليه أحبها إلى ربه تعالى، فإن حبه تابع لحب ربه جل وعلا.
وفي الحديث: «ما مات نبي إلا دفن حيث قبض» فحول فراشه وحفر له ودفن في ذلك الموضع الذي توفاه الله فيه.
واختلفوا هل يجعل له لحد أو يجعل له شق، وكان في المدينة شخصان، أحدهما يصنع اللحد، والآخر يصنع الشق والأول هو أبو طلحة زيد بن سهل والثاني أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه.

وفي لفظ كان أبو عبيدة يحفر حينئذ لأهل مكة، وكان أبو طلحة زيد بن سهل يحفر لأهل المدينة فكان يلحد، فقال عمر رضي الله عنه: ترسلوا لهما، وكل من حضر منهما نزلناه، فأرسلوا خلفهما رجلين، وقال عمر رضي الله عنه: اللهم خر لرسولك، وقيل المرسل والقائل ما ذكر العباس رضي الله، فسبق أبو طلحة رضي الله عنه فصنع له لحداً وأطبق عليه بتسع لبنات ثم أهيل التراب. وقد جاء في الحديث «ألحدوا ولا تشقوا، فإن اللحد لنا والشق لغيرنا» وقد روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال في مرض موته: ألحدوا لي لحداً، وانصبوا عليّ اللبن نصباً كما صنع برسول الله ، وسلّ من قبل رأسه كما رواه البيهقي وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما: أي وضع سريره عند مؤخر القبر، فكان رأسه الشريف عند المحل الذي يكون فيه رجلاه فلما أدخل القبر سلّ من قبل رأسه، ودخل قبره العباس وعلي والفضل وقثم وشقران. واقتصر ابن حبان عن ابن عباس رضي الله عنهما على الثلاثة الأول، وفرش شقران في اللحد تحته قطيفة حمراء.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 455
وفي رواية بيضاء كان يجعلها على رجليه، إذا سافر، لأن الأرض كانت ندية وقال والله لا يلبسها أحد بعدك، فدفنت مع رسول الله .
وقيل أخرجت: أي عملاً بوصيته ، فقد روى البيهقي عن أبي موسى رضي الله عنه أنه أوصى أن لا تتبعوني بصارخة ولا مجمرة، ولا تجعلوا بيني وبين الأرض شيئاً، لكن في رواية الجامع الصغير: «افرشوا لي قيطفي في لحدي، فإن الأرض لم تسلط على أجساد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام».
وكان دفنه ليلة الأربعاء. وعن أم سلمة رضي الله عنها «كنا مجتمعين نبكي تلك الليلة لم ننم فسمعنا صوت المساحي، فصحنا وصاح أهل المسجد، فارتجت المدينة صيحة واحدة، فأذن بلال بالفجر، فلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى وانتحب فزادنا حزناً، فيالها من مصيبة ما أصابنا بعدها من مصيبة إلا هانت إذا ذكرنا مصيبتنا به .

وعن فاطمة رضي الله عنها: لما دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت لأنس: يا أنس كيف طابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله التراب؟ وفي لفظ: أطابت نفوسكم أن دفنتم رسول الله صلى الله عليه وسلم في التراب ورجعتم. وفي رواية أنها قالت لعلي كرم الله وجهه: يا أبا الحسن دفنتم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم، قالت: كيف طابت قلوبكم أن تحثوا التراب عليه؟ كان نبي الرحمة، قال: نعم، ولكن لارادّ لأمر الله. وقد جاء أن الإنسان يدفن في التربة التي خلق منها، وهو يدل على أنه وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما خلقوا من تربة واحدة لأنهم دفنوا ثلاثتهم في تربة واحدة.
فقد روي أن أبا بكر رضي الله عنه لما حضرته الوفاة قال لمن حضره: إذا أنا مت وفرغتم من جهازي فاحملوني حتى تقفوا بباب البيت الذي فيه قبر النبي ، فقفوا بالباب، وقولوا: السلام عليك يا رسول الله، هذا أبو بكر يستأذن، فإن أذن لكم بأن فتح الباب، وكان الباب مغلقاً بقفل، فأدخلوني وادفنوني، وإن لم يفتح الباب فأخرجوني إلى البقيع وادفنوني به، فلما وقفوا على الباب وقالوا ما ذكر سقط القفل وانفتح الباب، وسمع هاتف من داخل البيت: أدخلوا الحبيب إلى الحبيب، فإن الحبيب إلى الحبيب مشتاق.
ولما احتضر عمر رضي الله عنه قال لابنه عبد الله رضي الله عنه: يا عبد الله ائت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقل لها: إن عمر يقرئك السلام، ولا تقل أمير المؤمنين فإني لست اليوم بأمير المؤمنين، وقل: يستأذن أن تدفنيه مع صاحبيه، فإن أذنت فادفنوني وأن أبت فردوني إلى مقابر المسلمين، فأتاها عبد الله وهو يبكي، فقال: إن عمر يستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: لقد كنت ادخرت ذلك المكان لنفسي ولأوثرنه اليوم على نفسي، فلما رجع عبد الله إلى أبيه وأقبل عليه، قال عمر: أقعدوني، ثم قال لعبد الله: ما وراءك، قال: قد أذنت لك، قال: الله أكبر، ما شيء أهم إلي من ذلك المضجع.

رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 455
وقد ذكر أن الحسن رضي الله عنه لما سقي السم ورأى كبده تقطع أرسل إلى عائشة رضي الله عنها أن يدفن عند جده ، فأذنت له، فلما مات منع من ذلك مروان وبنو أمية، فدفن بالبقيع. ويذكر أنه رضي الله عنه قال لأخيه الحسين رضي الله عنه قال: كنت بلغت إلى عائشة إذا مت أن تأذن لي أن أدفن في بيتها مع رسول الله ، فقالت: نعم ولا أدري لعلها كان ذلك منها حياء، فإذا أنا مت فاطلب ذلك منها، فإن طابت نفسها فادفني في بيتها وما أظن القوم إلا سيمنعونك، فإن فعلوا فلا تراجعهم في ذلك، وادفني في بقيع الغرقد، فإن لي فيمن فيه أسوة، فلما مات الحسن رضي الله عنه جاء الحسين رضي الله عنه إلى عائشة رضي الله عنها فطلب منها ذلك، فقالت: نعم وكرامة فبلغ ذلك مروان، فقال: كذب وكذبت، والله لا يدفن هناك أبداً، منعوا عثمان من دفنه هناك ويريدون دفن حسن، فبلغ ذلك الحسين رضي الله عنه، فلبس الحديد هو ومن معه، وكذلك مروان لبس الحديد هو ومن معه، فبلغ ذلك أبا هريرة رضي الله عنه، فانطلق إلى الحسين وناشده الله وقال له: أليس أخوك قد قال لك ما قال: فلم يزل به حتى رضي بدفنه بالبقيع فدفن بجانب أمه رضي الله عنها، ولم يشهد جنازته أحد من بني أمية إلا سعيد بن العاص. لأنه كان أميراً على المدينة، قدمه الحسين فصلى عليه إماماً وقال هي السنة.
قال ابن كثير رحمه الله: والذي نص عليه وغير واحد من الأئمة سلفاً وخلفاً أنه توفي يوم الاثنين قبل أن ينتصف النهار، ودفن يوم الثلاثاء قبل وقت الضحى، والقول أنه مكث ثلاثة أيام لا يدفن غريب ، والصيحيح أنه مكث بقية يوم الاثنين وليلة الثلاثاء ويوم الثلاثاء وبعض ليلة الأربعاء.

وكان السبب في تأخره ما علمت من اشتغالهم ببيعة أبي بكر رضي الله عنه حتى تمت، وقيل لعدم اتفاقهم على موته ، وكان آخر من طلع من قبره الشريف قثم بن العباس رضي الله عنهما، وقيل المغيرة بن شعبة رضي الله عنه لأنه ألقى خاتمه في القبر الشريف وقال لعلي: يا أبا الحسن خاتمي، وإنما طرحته عمداً لأمس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكون آخر الناس عهداً به قال: انزل فخذه، وقيل ألقى الفأس في القبر وقال: الفأس الفأس فنزل وأخذها، ويقال إن علياً كرم الله وجهه لما قال له المغيرة ذلك نزل وناوله الخاتم أي أو الفأس، أو أمر من نزل وناوله ذلك وقال له: إنما فعلت ذلك لتقول أنا آخر الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم عهداً، واعترض بأن المغيرة رضي الله عنه لم يكن حاضراً للدفن.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 455
وقد روي أن جماعة من العراق قدموا على عليّ كرم الله وجهه فقالوا: يا أبا الحسن جئناك لنسألك عن أمر نحب أن تخبرنا عنه، فقال لهم: أظن أن المغيرة بن شعبة يحدثكم أنه كان آخر الناس عهداً برسول الله ، قالوا: أجل، عن هذا جئنا نسألك قال: كان آخر الناس عهداً برسول الله صلى الله عليه وسلم قثم بن العباس رضي الله عنهما.
وقام الإجماع على أن هذا الموضع الذي ضم أعضاءه الشريفة أفضل بقاع الأرض حتى موضع الكعبة الشريفة، قال بعضهم: وأفضل من بقاع السماء أيضاً حتى من العرش.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: ما نفضنا الأيدي من دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا، قال بعضهم: وأظلمت الدنيا حتى لم ينظر بعضنا إلى بعض، وكان أحدنا يبسط يده فلا يراها، وقال رسول الله : «أنا فرط لأمتي لن يصابوا بمثلي» وفي مسلم أنه قال: «إن الله سبحانه وتعالى إذا أراد بأمة خيراً قبض نبيها قبلها، فجعله لها فرطاً وسلفاً بين يديها» فياله من خطب جل عن الخطوب، ومصاب علم دمع العيون كيف يصوب، وطارق هجم هجوم الليل، وحادث هد كل القوى والحيل، ولشدة أسف حماره الذي كان يركبه ألقى نفسه في حفيرة فمات كما تقدم، وتركت ناقته الأكل والشرب حتى ماتت، وأنشد الحافظ الدمياطي عن غيره:
ألا يا ضريحا ضم نفساً زكية
عليك سلام الله في القرب والبعد
عليك سلام الله ما هبت الصبا
وما ناح قمري على البان والرند
وما سجعت ورق وغنت حمامة
وما اشتاق ذو وجد إلى ساكني نجد
ومالي سوى حبي لكم آل أحمد
أمرغ من شوقي على بابكم خدي
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 455
باب بيان ما وقع من الحوادث من عام ولادته إلى زمان وفاته على سبيل الإجمال وبيان زمن ولادته عاماً ويوماً وشهراً ومكاناً
اعلم أن الأكثر على أنه ولد عام الفيل، وحكى بعضهم الإجماع عليه. قال: وكل قول خالفه فهو وهم.
وقيل بعد الفيل بخمسين يوماً، وقيل بزيادة خمسة أيام، وقيل بشهر، وقيل بأربعين يوماً، وقيل بشهرين وعشرة أيام، وقيل بعشرين سنة، وقيل بعشر سنين، وقيل بخمس عشرة سنة.

وكانت ولادته يوم الاثنين في شهر ربيع الأول لعشر خلون منه وقيل لليلتين، وقيل لثمان خلت، واختاره الحميدي تبعاً لشيخه ابن حزم. وحكى القضاعي رحمه الله عن (عيون المعارف) إجماع أهل التاريخ عليه. وقيل لاثنتي عشرة ليلة وهو المشهور، وقيل لسبع عشرة، وقيل لثمان بقين منه، وذلك في النهار عند طلوع الفجر، وقيل ولد ليلاً وعليه عمل أهل مكة في زيارة موضع مولده الشريف وكونه في شهر ربيع الأول هو قول الجمهور من العلماء، وحكى ابن الجوزي رحمه الله الاتفاق عليه. وقيل في صفر، وقيل في ربيع الآخر وقيل في رجب، وقيل في شهر رمضان.
واختلف في مكان ولادته ، فقيل بمكة وعليه قيل بالدار التي كانت لمحمد بن يوسف أخي الحجاج، وقيل بالشعب شعب بني هاشم وذلك المحل يزار الآن، وقيل بالردم، وقيل ولد بعسفان.
وفي السنة الثالثة من مولده شق صدره الشريف عند ظئره حليمة رضي الله تعالى عنها، وقيل كان في الرابعة، وفيها ولد أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه بمنى.
وفي السنة السادسة من مولده كانت وفاة أمه آمنة ودفنت بالأبواء، وقيل بشعب أبي ذئب بالحجون محل مقابر أهل مكة، وقيل في دار رائعة بالمعلاة، وفيها ولد عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وفي السنة السابعة من مولده استقل بكفالته جده عبد المطلب، وفيها أصابه رمد شديد، وفيها استسقى عبد المطلب وهو معه بسبب رؤيا دقيقة، وفيها خرج عبد المطلب لتهنئة سيف بن ذي يزن الحميري بالملك.
وفي السنة الثامنة من مولده كانت وفاة جده عبد المطلب وكفالة عمه أبي طالب .
وفي هذه السنة مات حاتم الطائي الذي يضرب به المثل في الجود والكرم، ومات كسرى أنو شروان.
وفي السنة التاسعة من مولده قيل سافر به عمه أبو طالب إلى بصرى من أرض الشام، وهي مدينة هوازن.
وفي السنة العاشرة من مولده كانت حرب الفجار الأولى.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 491

وفي السنة العاشرة وقيل الحادية عشرة من مولده كان شق صدره الشريف.
وفي السنة الثانية عشرة من مولده كان حرب الفجار الثانية. وكان سفر عمه أبي طالب به إلى بصرى من أرض الشام على ما عليه الأكثر.
وفي السنة الثالثة عشرة من مولده ولد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وفي السنة الرابعة عشرة من مولده كانت حرب الفجار الثالثة، وقيل كان عمره عشرين سنة.
وفي السنة السابعة عشرة من مولده كان سفر عمه الزبير والعباس ابني عبد المطلب لليمن للتجارة، وصحبهما النبي .
وفي السنة الخامسة والعشرين من مولده كان سفره إلى الشام مع ميسرة غلام خديجة رضي الله عنها. وتزوج خديجة.
وفي سنة ثلاثين من مولده ولد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الكعبة.
وفي سنة أربع وثلاثين من مولده ولد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ومعاذ بن جبل رضي الله عنه.
وفي سنة خمس وثلاثين من مولده هدمت قريش الكعبة وبنتها.
وفي سنة سبع وثلاثين رأى الضوء والنور، وكان يسمع الأصوات.
وفي السنة الأولى من النبوة كان نزول الوحي عليه في اليقظة بعد أن مكث ستة أشهر يوحى إليه في المنام.
وفي السنة الثالثة من النبوة قيل توفي ورقة بن نوفل.
وفي السنة الرابعة من النبوة كان إظهار الدعوة.
وفي السنة الخامسة من النبوة ولدت عائشة رضي الله عنها. وقيل ولدت في الرابعة.
وفي السنة الخامسة أيضاً كانت الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة. وفيها ماتت سمية أم عمار بن ياسر رضي الله عنهم، وهي أول شهيدة في الإسلام.
وفي السنة السادسة من النبوة أسلم حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وعمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقيل أسلما رضي الله عنهما في سنة خمس، وكان إسلام حمزة رضي الله عنه قبل إسلام عمر رضي الله عنه بثلاثة أيام.

وفي السنة السابعة من النبوة تقاسمت قريش وتعاهدت على معاداة بني هاشم وبني المطلب وقيل كان ذلك في السادسة، وقيل في الخامسة، وقيل في الثامنة وذلك في خيف بني كنانة بالأبطح ويسمى محصباً، وهو بأعلى مكة شرفها الله عند المقابر.
وفي السنة التاسعة من النبوة كان انشقاق القمر له .
وفي السنة العاشرة من النبوة مات أبو طالب وماتت خديجة رضي الله عنها. وكان يسمى ذلك العام عام الحزن. وفيها جاءه جن يصيبين وأسلموا. وفيها تزوج سودة رضي الله عنها بنت زمعة ودخل عليها في مكة. وفيها عقد عقده على عائشة رضي الله عنها، ولم يدخل عليها إلا في المدينة.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 491
وفي السنة الحادية عشرة من النبوة كان ابتداء إسلام الأنصار رضي الله عنهم.
وفي السنة الثانية عشرة من النبوة كان الإسراء والمعراج. وفيها وقعت بيعة العقبة الأولى.
وفي السنة الثالثة عشرة من النبوة كانت بيعة العقبة الثانية التي هي الكبرى، وبعضهم يسميها العقبة الثالثة، ويسمى إسلام الأنصار عقبة مع أنه لا مبايعة فيه. وفي هذه السنة أراد أبو بكر رضي الله عنه أن يهاجر للحبشة، فلما بلغ برك الغماد رده ربيعة بن الدغنة سيد القارة.
وفي السنة الرابعة عشرة من النبوة وهي السنة الأولى من الهجرة إلى المدينة، فكانت الهجرة فيها في صفر أو في غرة ربيع الأول. وفيها كان بناء المسجد ومساكنه ومسجد قباء، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، قيل وكان ابتداء خدمة أنس رضي الله عنه له . فقد جاء أنه لما قدم المدينة صارت الأنصار يبعثون إليه بالهدايا رجالهم ونساؤهم، وكانت أم أنس رضي الله عنهما لا شيء لها تهديه له فكانت تتأسف، فأخذت يوماً بيد أنس رضي الله عنه وقالت: يا رسول الله هذا يخدمك. وجاء أن زوجها أبا طلحة رضي الله عنه جاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله إن أنساً غلام كيس فليخدمك.

وجمع بأن أمه جاءت به أولاً ثم جاء به أبو طلحة ثانياً لأنه وليه وعصبته، قال في (الخميس) وهذا غير مجيئه به لخدمته في غزوة خيبر. وفيها كما في الأصل، وقيل في السنة الثانية زيد في صلاة الحضر ركعتان وتركت صلاة الفجر وصلاة المغرب لأنها وتر النهار، وأقرت صلاة السفر، وتركت على الفريضة الأولى كذا قيل. وفي هذه السنة مات من مشركي مكة الوليد بن المغيرة. ولما احتضر جزع، فقال أبو جهل لعنة الله: يا عم ما جزعك؟ فقال: والله ما بي من جزع من الموت ولكن أخاف أن يظهر دين ابن أبي كبشة بمكة، فقال أبو سفيان رضي الله عنه: لا تخف، إني ضامن أن لا يظهر. وفيها مات العاص بن وائل. وفيها مات أسعد بن زرارة رضي الله عنه وفيها ابتدئت الغزوات، فكان فيها غزوة الأبواء وغزوة ودان كما في الأصل. وفي هذه السنة بنى بعائشة رضي الله عنها، وفيها شرع الأذان، وفيها الجمعة في طريقه حيث ارتحل من قباء إلى المدينة، وهي أوّل جمعة صلاها، وأول خطبة خطبها في الإسلام. وفيها أسلم عبد الله بن سلام رضي الله عنه. وكان فيها بعث عمه حمزة رضي الله عنه يعترض عيراً لقريش، وبعث ابن عمه عبيدة بن الحارث رضي الله عنه إلى بطن رابغ. وبعث سعد بن أبي وقاص رضي الله إلى الخرار يعترض عيراً لقريش.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 491

وفي السنة الخامسة عشرة من النبوة والثانية من الهجرة تزوّج علي كرم الله وجهه بفاطمة رضي الله عنها وتكنيته بأبي تراب، وغزوة بواط وغزوة العشيرة، وسرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه إلى بطن نخلة، وتحويل القبلة، وتجديد بناء مسجد قباء، وفرض رمضان وغزوة بدر الكبرى، ووفاة رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنها، وقتل عصماء وفرض زكاة الفطر، وشروع صلاة عيده. وفرض زكاة الأموال، وغزوة قرقرة الكدر. وسرية سالم بن عمير رضي الله عنه. وغزوة بني قينقاع. وغزوة السويق، وموت عثمان بن مظعون رضي الله عنه، والتضحية وصلاة عيدها.
وفي السنة السادسة عشرة من النبوّة والثالثة من الهجرة سرية محمد بن مسلمة رضي الله عنه لقتل كعب بن الأشرق لعنه الله. وتزوّج عثمان رضي الله عنه أم كلثوم رضي الله عنها، وغزوة غطفان وغزوة بحران، وسرية زيد بن حارثة رضي الله عنهما إلى قردة. وتزوّج حفصة رضي الله عنها، وتزوّج زينب بنت خزيمة رضي الله عنها، وولادة الحسن، وغزوة أحد، وغزوة حمراء الأسد، وعلوق فاطمة بالحسين رضي الله عنهما.
وفي السنة السابعة عشرة من النبوّة والرابعة من الهجرة سرية أبي سلمة رضي الله عنه إلى قطن. ووفاته. وسرية عبد الله بن أنيس رضي الله عنه إلى عرنة لقتل سنان بن خالد. وسرية القراء رضي الله عنهم إلى بئر معونة. وقصة الرجيع. وسرية عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه إلى مكة لقتل أبي سفيان رضي الله عنه، وغزوة بني النضير، ووفاة زينب بنت خزيمة، وغزوة ذات الرقاع، وصلاة الخوف، وولادة الحسين رضي الله عنه، وغزوة بدر الصغرى، وتزوّج أم سلمة رضي الله عنها، وتحريم الخمر عند بعضهم.

وفي السنة الثامنة عشرة من النبوة والخامسة من الهجرة غزوة دومة الجندل، وغزوة المريسيع، ونزول آية التيمم، وتزوّج جويرية رضي الله عنها، وقصة الإفك، وغزوة الخندق، وغزوة بني قريظة، وقصة أولاد جابر رضي الله عنهم، وتزوّج زينب بنت جحش رضي الله عنها، ونزول آية الحجاب، وفرض الحج.
وفي السنة التاسعة عشرة من النبوّة والسادسة من الهجرة سرية محمد بن مسلمة رضي الله عنه إلى القرطاء، وقصة ثمامة، وغزوة بني الحيان وغزوة الغابة، وسرية عكاشة رضي الله عنه إلى الغمر، وسرية محمد بن مسلمة رضي الله عنه إلى ذي القصة، وسرية أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى مصارع أصحاب محمد بن مسلمة رضي الله عنهم، وسرية زيد بن حارثة رضي الله عنهما إلى بني سليم بالجموم، وسرية زيد بن حارثة رضي الله عنهما إلى العيص، وسرية زيد بن حارثة رضي الله عنهما إلى الطرف، وسرية زيد بن حارثة رضي الله عنهما الى وادي القري، وسرية زيد بن حارثة رضي الله عنهما إلى أم قرفة، وسرية عبد الله بن عتيك رضي الله عنه لقتل أبي رافع، وسرية عبد الله بن رواحة رضي الله عنه إلى أسير ابن رزام اليهودي بخيبر، وسرية زيد بن حارثة رضي الله عنهما إلى حسمَى، وغزوة الحديبية، ونزول حكم الظهار، وتخريم الخمر، وتزوّجه أم حبيبة رضي الله عنها.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 491
وفي السنة العشرين من النبوة والسابعة من الهجرة، كان اتخاذ الخاتم، وإرسال الرسل إلى الملوك، ووقوع السحر به ، وغزوة خيبر، وفتح وادي القرى، والدخول بأم حبيبة رضي الله عنها، وسرية عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى طائفة من هوازن، وعمرة القضاء، وتزوّج ميمونة رضي الله عنها، وسرية ابن أبي العوجاء رضي الله عنه إلى بني سليم.

وفي السنة الحادية والعشرين من النبوّة والثامنة من الهجرة، كان إسلام خالد بن الوليد رضي الله عنه وعمرو بن العاص رضي الله عنه وعثمان بن طلحة رضي الله عنه، وسرية غالب بن عبد الله الليثي رضي الله عنه إلى بني الملوح، وسريته إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد رضي الله عنه بفدك، واتخاذ المنبر الشريف، وسرية شجاع بن وهب رضي الله عنه إلى بني عامر، وسرية كعب بن عمير الغفاري إلى ذات أطلاح، وسرية مؤتة، وسرية عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى ذات السلاسل؛ وسرية أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى سيف البحر، وسرية أبي قتادة رضي الله عنه إلى بطن أضم، وسرية عبد الله بن أبي حدرد رضي الله عنه إلى الغابة، وغزوة فتح مكة شرفها الله تعالى، وسرية خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى العزى بنخلة، وسرية عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى سواع صنم هذيل، وسرية سعد بن زيد الأشهلي رضي الله عنه إلى مناة صنم للأوس، وسرية خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى بني جزيمة، وغزوة حنين، وسرية أبي عامر رضي الله عنه إلى أوطاس، وسرية أبي الطفيل إلى ذي الكفين، وغزوة الطائف، وولادة ولده إبراهيم ، وقدوم أول الوفود عليه وهو وفد هوازن، ووفاة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها.

وفي السنة الثانية والعشرين من النبوّة وهي التاسعة من الهجرة، بعث عيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم، وبعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق، وسرية قطبة بن عامر رضي الله عنه إلى خثعم، وسرية الضحاك الكلابي رضي الله عنه إلى بني كلاب، وسرية علقمة بن محرز رضي الله عنه إلى أهل الحبشة، وبعث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى القلس، وبعث عكاشة بن محصن رضي الله عنه إلى الجباب، وإسلام كعب بن زهير، وهجره لنسائه، وغزوة تبوك، وسرية خالد بن الوليد رضي الله عنه من تبوك إلى أكيدر، وإرسال كتابه من تبوك إلى هرقل، وهدم مسجد الضرار، وقصة كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم، وقصة اللعان، وإسلام ثقيف، ورجم الغامدية، ووفاة النجاشي، ووفاة أم كلثوم رضي الله عنها، وموت عبد الله بن أبيّ بن سلول، وحج أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 491
وفي السنة الثالثة والعشرين من النبوّة وهي العاشرة من الهجرة قدوم عدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه، وبعث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ومعاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن، وبعث خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى بني الحارث بن كعب بنجران، وبعث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى اليمن، وبعث جرير بن عبد الله البجلي إلى تخريب ذي الخلصة، وبعث جرير بن عبد الله أيضاً رضي الله عنه إلى ذي الكلاع، وبعث أبي عبيدة بن الجراح، رضي الله عنه إلى أهل نجران، وقصة بديل وتميم الداري، ووفاة ولده إبراهيم ، وخروجه للحج.
وفي السنة الرابعة والعشرين من النبوة وهي الحادية عشرة من الهجرة، قدوم وفد النخع، وسرية أسامة بن زيد رضي الله عنهما إلى أبنى، وقصة الأسود العنسي ومسيلمة الكذاب وسجاح وطليحة، وما وقع في ابتداء مرضه ، ومدة مرضه، ووقت مرضه . وموته وغسله وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه وشرف وكرم، والله أعلم.

اللهم أعنا على شكرك وذكرك وحسن عبادتك. اللهم افتح أقفال قلوبنا بذكرك، وأتمم علينا نعمتك من فضلك، واجعلنا من عبادك الصالحين. اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا. اللهم ألهمنا رشدنا، وأعذنا من شر نفوسنا. اللهم ارزقنا نفساً مطمئنة تؤمن بلقائك، وترضى بقضائك، وتقنع بعطائك. اللهم إنا مقصرون في طلب رضاك فأعنا عليه بحولك وقوتك {الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله}.
اللهم صل على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آل محمد وأزواجه وذرياته كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، واختم لنا بخير، وأصلح لنا شأننا كله، وافعل ذلك بإخواننا وأحبابنا وسائر المسلمين، وأستغفر الله من قول بلا عمل، وأستغفره من كل خطأ وزلل، وأسأله علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وقلباً خاشعاً، وعملاً متقبلاً، وشفاء من كل داء، وأن يجعل ذلك حجة لنا ولا يجعله حجة علينا إنه جواد كريم رؤوف رحيم لطيف خبير، والحمد لله وحده.
اللهم صل على من لا نبيّ بعده عبدك ورسولك سيدنا محمد، الذات المكملة، والرحمة المنزلة من عندك. اللهم احشرنا في زمرته، واجعلنا من خدام سنته آمين، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.
رقم الجزء: 3 رقم الصفحة: 491


Diberdayakan oleh Blogger.